لا صورة أشد قسوة لمشهد حجر يؤلمه طغيان الجفاف القاسي الذي حول أنهار القارة العجوز إلى لوحة موجعة من التجاعيد، والربوع الخضراء إلى «قحط» ترعاه شقوق اليابسة.

ولا عبارة أشد وجعاً من التي نقشت على صدر حجر الجوع: «إذا رأيتني فابك» الذي عثر عليه في نهر «إلبه» قرب مدينة ديسين شمال جمهورية التشيك؛ فهي أنبل رفض للعبث المناخي، وأكثر بلاغة في تجسيد واقع بشر يعيشون ضياعاً مناخياً وكارثة جفاف تهدد العالم أجمع.

لقد استطاع «حجر الجوع» أن يحرك المياه الراكدة في ضمير العالم تجاه أخطار التغير المناخي الذي يتهدده، لا بسبب شكله أو موقعه، بل بعبارته المحفورة على صدره والتي تحذر من مأساة بشرية تطال تداعياتها الأمن الغذائي، والاقتصادي، والتنموي عموماً.

ويعود تاريخ «حجر الجوع» إلى عام 1616، حيت نقشت عليه عبارة تحذيرية باللغة الألمانية: «Wenn du mich seehst، dann weine» والمترجمة إلى العربية «إذا رأيتني، فابك»، ثم عاد إلى الظهور عام 2018 على ضفاف نهر «إلبه»، الذي يبدأ في التشيك ويتدفق عبر ألمانيا، بعد انخفاض مستواه بسبب الجفاف، وفق موقع "بيزنس إنسايدر".

نقوش الجوع

وبحسب دراسة أجراها فريق من الباحثين التشيكيين عام 2013، فقد حفرت النقوش على «أحجار الجوع» خلال سنوات المشقة، للتحذير من عواقب الجفاف الوخيمة، حيث كانت تلك الحجارة أحد مصادر الدراسة التي بحثت في تاريخ الجفاف الذي ضرب جمهورية التشيك عام 1090.

وتعبر النقوش، بحسب الباحثين التشيكيين، عن أن الجفاف تسبب في ضعف المحاصيل، ونقص الغذاء، وارتفاع الأسعار، والجوع للفقراء، وقد تكرر حدوثه خلال عدة أعوام.

وعادت «أحجار الجوع» (hunger stones)، التي يرتبط تاريخها بقرون خلت، إلى الظهور اليوم في أوروبا، مع انخفاض مستوى الأنهار بسبب الجفاف، وفق صحيفة «ميامي هيرالد» نقلاً عن سكان محليين.

وعثر الباحثون على أكثر من اثني عشر حجراً، حمل أقدم واحد منها تاريخ 1616 في ضواحي مدينة ديسين قرب الحدود الألمانية، حيث يلتقي نهرا «إلبه» و«بلاوتشنيس»، كما عُثر على حجارة في أنهار أخرى في المنطقة، مثل نهر «الراين» ونهر «موميل» ونهر «فيزر». وتعرض بعض أنواع الأحجار في متحف مدينة شونهبك الألمانية.

وترتبط قصة هذه الأحجار إلى حد كبير بتاريخ أوروبا، حيث تستند فكرتها على تسجيل أعوام الجفاف عندما تنحسر مياه الأنهار، على الصخور التي كانت تغمرها المياه، بحسب موقع (arstechnica) المتخصص في الشؤون العلمية والتقنية.

وتعود هذه الأحجار إلى ما بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، وقد أُدمجَت في ممرات الأنهار الجافة لتحذير الناس في المستقبل من أن الأوقات الصعبة قد تكون قريبة.

وتشير منحوتات قديمة إلى موجات جفاف ضربت القارة العجوز في أعوام 1417و 1473، لكن هذه الأرقام تعرضت للتخريب بسبب رسو السفن على مر القرون.

وسجلت الأجيال السابقة أعواماً على الأحجار مثل: 1707و 1746و 1790 و1893.

ويصنف الباحثون «أحجار الجوع» على أنها نُصُب هيدرولوجي في بعض أنهار أوروبا الوسطى يتم الكشف عنها عندما ينخفض منسوب مياه الأنهار.

ولم يحلل الخبراء بعد بشكل كامل ما حدث هذا العام من تغير مناخي، لأنه لا يزال مستمراً، وفق أندريا توريتي، من مركز البحوث المشتركة التابع للمفوضية الأوروبية، مضيفاً «لم نر موجة جفاف كتلك التي نواجهها الآن منذ تم التسجيل عن معدلات الجفاف من 500 عام».

أسوأ جفاف

وتوصف أزمة جفاف الأنهار في أوروبا بأنها أسوأ وأقسى موجة تشهدها القارة العجوز منذ نحو 500 عام، بحسب صحيفة «الجارديان» البريطانية، حيث يمكن في بعض الأماكن الآن عبور نهر اللوار في فرنسا سيرًا على الأقدام، فلم يتدفق أطول نهر في فرنسا بهذه السرعة على الإطلاق، كما جف نهر الراين في ألمانيا سريعاً، وأصبحت السفن والصنادل البحرية غير قادرة على الإبحار فيه، كما انخفض في إيطاليا، مستوى نهر «بو» بمقدار مترين، وتعرض نهر «الدانوب» في صربيا للمصير ذاته من انخفاض المنسوب بشكل كبير.
 

قطرات صغيرة

ويعمل الجفاف في جميع أنحاء أوروبا على تقليل منسوب الأنهار التي كانت في يوم من الأيام قوية حتى تحولت إلى مجرد قطرات صغيرة، وفق «الجارديان»، مع عواقب وخيمة محتملة على الصناعة والشحن والطاقة وإنتاج الغذاء، والتي لا تقل خطورة عن أزمة نقص الإمدادات وارتفاع الأسعار بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.