المناخ ضحية الصراع بين الغرب وروسيا

ت + ت - الحجم الطبيعي

تهدد الاضطرابات الواسعة في العلاقات الدولية والمتغيّرات الجيوسياسية التي يشهدها العالم بتفكيك النظام العالمي الذي أقيم بعد الحرب العالمية الثانية.. هذا الاضطراب في العلاقات بين القوى العظمى يجعل من الصعب الحفاظ على التعاون الدولي اللازم لمواجهة تغير المناخ.. بينما لا يمتد تأثيره المخيف إلى الجهود التعاونية لتحقيق الأهداف العالمية للحد من الانبعاثات فحسب.

بل يمتد أيضاً إلى الأبحاث ودراسات السياسات اللازمة لتوجيه العمل العالمي.. وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه: «كيف يمكن التصدي لأزمة المناخ في عالم منقسم؟».

ما من شك أن النظام العالمي الذي أقيم بعد الحرب العالمية الثانية يواجه الآن خطراً محدقاً يُنذر بتفككه، في ضوء تنامي المُهددات والصراعات المختلفة، وبما يُنذر بميلاد نظام دولي جديد من رحم التغيرات الجيوسياسية المتسارعة وما تفرضه من تبعات تستهدف بنية التوازنات القديمة وتركيبة التفاعلات الدولية القائمة. وقد جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لتعبر بشكل شديد الوضوح عن جوانب من تلك المتغيرات العاصفة.

سياسياً، ربما من المُبكر تحديد «الفائزين والخاسرين» ضمن تلك التفاعلات وأثرها على التوازنات الدولية الجديدة، ومن الصعوبة بمكان أيضاً تصور طبيعة تلك التوازنات وسط سلسلة من التداعيات والمتغيرات والأحداث المفصلية التي تضع العالم «على صفيح ساخن» وأمام سيناريوهات مفتوحة. والأمر ذاته ينطبق على المستويات الاقتصادية والتجارية التي تتحدد اتجاهاتها بناءً على تلك التفاعلات.

بينما على الصعيد البيئي تبدو الصورة قاتمة تماماً، ولا يخفي علماء ومختصون مخاوفهم من تلك المتغيرات المتنامية المُهددة للنظام العالمي برمته على التعاون الدولي في مواجهة أزمة المناخ والتكيف مع تبعاتها شديدة الخطورة. ويظل السؤال المُلح هو «كيف يمكن التصدي للتغير المناخي في عالم مجزأ؟».

ذلك «العالم المجزأ» الذي تواجه فيه الدول الكبرى - وهي المسؤولة عن النسبة الأكبر من الانبعاثات المتسببة للاحتباس الحراري- إشكاليات جيوسياسية عميقة وتحديات جسام تغلفها الصراعات والأزمات البينية في خضم اضطراب واسع في العلاقات بين القوى العظمى، بما قد يشكل عائقاً أمام أي جهد تعاوني «بحثي وعلمي» في سياق مكافحة التغير المناخي، فضلاً عمّا يشكله من تهديدات بخصوص مدى الالتزام بالتعهدات السابقة التي تم إقرارها في مؤتمر باريس للمناخ ومؤتمر الأطراف في غلاسكو العام الماضي.

انعدام الثقة

وفي هذا السياق، «يخشى البعض من أن العالم الذي ظهر خلال نصف القرن الماضي سوف يتطور تجارياً إلى كتلتين أو ثلاث شبه مستقلة تتميز بالعداء المتبادل وانعدام الثقة.. مثل هذا الفصل العميق سيجعل التعاون في مواجهة تحدي المناخ العالمي أكثر صعوبة»، طبقاً لما ورد في مقال مشترك كتبه كل من المدير المشارك لبرنامج معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا سابقاً هنري جاكوبي، وعالم المناخ بنيامين سانتر، وأستاذ الاقتصاد والدراسات البيئية بمؤسسة هافينغتون غاري يوهي، بموقع صحيفة «ذا هل» الأمريكية.

وفي وقت يُبرز المقال أثر الاضطرابات التي تواجه العلاقات الدولية، فإنه يتحدث كذلك عن الولايات المتحدة الأمريكية كنموذج، ومدى ما تشكله علاقاتها المضطربة مع الصين وروسيا بشكل خاص، على التعاون في مجال المناخ، فضلاً عن العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على روسيا بعد عمليتها في أوكرانيا، وأثر تلك العقوبات على المساهمة الروسية ضمن الجهود الدولية الهادفة للتعاون في التصدي للتغير المناخي. وبالتالي يقول خبراء إنه «ليس من المجدي معالجة تهديد المناخ العالمي بدون التعاون الروسي والصيني».

يأتي ذلك التخوّف على رغم إعلان كل من الصين والولايات المتحدة في وقت سابق -عقب لقاءات مشتركة عدة بين مبعوث تغير المناخ الصيني ونظيره الأمريكي- عن التزامهما بالتعاون بينهما ومع دول أخرى لمعالجة آثار ظاهرة التغير المناخي.

الالتزامات المالية

لكن في سياق متصل، يعتقد الخبير البيئي لدى الأمم المتحدة، محمد الزرقا، بأن التأثير الأكبر للاضطرابات التي تشوب العلاقات الدولية على قضايا المناخ وأزمة التغير المناخي ليس في مسألة التعاون في دراسات المناخ، أو في ما يتصل بتبادل المعلومات بين الدول وبعضها البعض «إنما التأثير الأكبر يكون في إطار أثر تلك الاضطرابات على الأوضاع الاقتصادية حول العالم، ومن ثم تبعاتها على التزامات الدول الكبرى إزاء التعامل مع أزمة المناخ، ما يؤكد أزمة التمويل».

ويقول الخبير البيئي الدولي في تصريحات لـ «البيان» من القاهرة: «الدول الكبرى والتي يُنظر إليها باعتبارها المسؤول عن النسبة الأكبر من الانبعاثات، سبق وتعهدت خلال مؤتمر باريس في 2015 بتقديم مساعدات بقيمة 100 مليار دولار للدول النامية للتغلب على آثار التغير المناخي، وقد تقود التحولات السياسية والاضطرابات الراهنة بما لها من آثار على الوضع الاقتصادي العالمي إلى عدم وفاء تلك الدول بتعهداتها».

ويستطرد: «قمة المناخ القادمة في مدينة شرم الشيخ المصرية تسعى إلى تأكيد التزام الدول الكبرى على الوفاء بتعهداتها المرتبطة بتقديم 100 مليار دولار، وهي التعهدات التي لم يتم تنفيذها، وبالتالي تسعى قمة «كوب 27» لتأكيد ذلك الالتزام، وتتحدث مصر فيها ممثلة عن أفريقيا بشكل عام.. وهو بمثابة تحدٍ في ظل الأوضاع الراهنة التي يشهدها العالم، لا سيما في ما يرتبط بتداعيات الحرب في أوكرانيا والتي قد يتم التذرع بتداعياتها الاقتصادية من أجل تبرير عدم الوفاء بهذا الالتزام».

ووصفت صحيفة «واشنطن بوست» الحرب الحالية في أوكرانيا بأنها تشكل لحظة فارقة في ما يخص أزمة المناخ، وذلك لجهة آثارها الممثلة في ارتفاع أسعار الطاقة ومعدلات التضخم، بما يخلق أزمة قصيرة المدى في عواصم غربية.

ويُبرز الخبير البيئي أهمية «تبادل المعلومات» بين دول العالم في ما يخص أزمة المناخ، وفي ظل معاناة كثير من الدول من ظروف متباينة وآثار للتغير المناخي على مستويات مختلفة.

وتتطلب تنامي التحديات التي تواجه العالم -وفي القلب منها أزمة المناخ- إجراءات جماعية تراعي في الوقت نفسه خصوصيات الحالة بالنسبة لكل بلد.

أبحاث المناخ

وأشارت صحيفة «ذا هل» الأمريكية في المقال المذكور إلى أن «الوكالات الحكومية حتى عندما تعمل لحماية مصالح الولايات المتحدة فإنها تحتاج إلى محاولة الحفاظ على ظروف مواتية لجهود أبحاث المناخ الدولية... كما يجب على المنظمات غير الحكومية (مثل الأكاديميات الوطنية والجمعيات العلمية) معارضة الدعوات لقطع جميع الاتصالات مع الوكالات الأخرى؛ ذلك أن العزلة غير مجدية».

وثمة جانب سلبي لقطع الاتصالات مع المجتمع الروسي، يرتبط بخطر إغفال المصالح المشتركة في خضم الصراع، ذلك أنه «لقد انتهى بشكل أساسي التعاون المثمر في قضايا المناخ الذي شارك فيه علماء روس وأمريكيون وباحثون آخرون.. سيكون لإلغاء المشاريع المشتركة وتعليق الاتصالات آثار وخيمة على البحوث المناخية اللازمة واستمرارية مجموعات البيانات الداعمة».

Email