ماكرون يقود مقاربة خاصة وفق مبدأ «روسيا لن تختفي»

فرنسا للغرب: للحرب حدود

ت + ت - الحجم الطبيعي

حدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال الأسبوع الماضي، ملامح أوضح للمقاربة الفرنسية تجاه الحرب في أوكرانيا، وذلك عبر تبني مقاربة لا تتعارض مع المسعى الغربي لإضعاف روسيا وتمكين أوكرانيا من الدفاع عن نفسها، إلا أنها لا تتفق مع الدعوات التي تصدر عن قيادات غربية حول إلحاق الهزيمة بروسيا، أو ما سمّاه ماكرون سياسة «إذلال روسيا». فهل بإمكان فرنسا المضي قدماً في هذا الاتجاه؟

منذ بدء الحرب في أوكرانيا، اتجهت الأنظار إلى الموقف الألماني الحذر حيث كانت لبرلين مقاربة مختلفة عن مقاربات الولايات المتحدة وبريطانيا وأوكرانيا، تجاه روسيا، فيما لم يتم التركيز على الموقف الفرنسي باعتبار أن الاعتقاد السائد هو أن باريس «مضمونة» في تبني الموقف المتشدد الغربي ضمن دائرة حلف شمال الأطلسي (ناتو).

أسفرت الضغوط الكبيرة على ألمانيا من جانب حلفائها الغربيين، إلى تزحزح مقاربتها الأولى التي كانت تركز على عدم حرق الجسور مع روسيا وإبعاد أجواء الحرب عن أوروبا عبر موقف لا يتفادى إدانة روسيا لكن لا يدعو أيضاً إلى تجاوز الأولوية الرئيسية لأوروبا وهو حماية أوكرانيا، من دون السعي إلى تدمير روسيا.

مع تزحزح الموقف الألماني نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية، برز الموقف الفرنسي الفريد في ظل الاصطفاف الحاد خلف الولايات المتحدة. وأظهر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في تصريح بتاريخ 9 مايو، لهجة جديدة في الخطاب الأوروبي تجاه الحرب. وقبل الانتخابات الفرنسية التي فاز فيها ماكرون لولاية رئاسية ثانية، اعتقد الكثير من المتابعين أن الخطاب اللين للرئيس الفرنسي تجاه روسيا يعود إلى الأجواء الانتخابية والوضع الداخلي. إلا أن ماكرون دعا بصراحة إلى عدم اجتراح أي حل في أوكرانيا يؤدي إلى «إذلال روسيا».

وقال في مؤتمر صحافي في البرلمان الأوروبي «غداً سيكون لدينا سلام نبنيه، دعونا ألّا ننسَ ذلك أبداً. سيتعين علينا القيام بذلك مع أوكرانيا وروسيا بشأن الطاولة.. لكن ذلك لن يحصل من خلال رفض أو استبعاد بعضنا بعضاً، ولا حتى بالإذلال».

الموقف الفرنسي لم يبدأ من تصريح ماكرون الأخير. فبعد فوزه في الانتخابات، تلقى ماكرون اتصالاً هاتفياً من الرئيس الروسي الذي هنأه بالفوز. وبينما لم يكن مطروحاً في السابق أن تكون هناك دول وسيطة أوروبية في النزاع بين أوكرانيا وروسيا، فإن إشارات متتابعة صدرت من الإليزيه للقيام بهذا الدور. وأكد الرئيس الفرنسي في محادثته الهاتفية مع الرئيس الروسي استعداده للإسهام في الوصول إلى اتفاقيات من أجل إحلال السلام في أوكرانيا.

وقال قصر الإليزيه في بيان بعد المحادثة الهاتفية: «أعرب الرئيس الفرنسي عن استعداده للمساعدة على تهيئة الظروف لحل تفاوضي يضمن السلام، فضلاً عن الاحترام الكامل لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها». وأعلنت وسائل إعلام فرنسية أن الاتصال الهاتفي بين الرئيس الفرنسي ونظيره الروسي استمر أكثر من ساعتين.

وفي خطاب التنصيب لولاية ثانية، تعهد إيمانويل ماكرون «التحرك بلا هوادة» من أجل فرنسا وأوروبا، و«بناء سلام أوروبي جديد واستقلالية جديدة في قارتنا». وخطاب الاستقلالية ميزة يركز عليها الفرنسيون في أوروبا أكثر من أي دولة أخرى. ويبدو أن مساعي هذه الاستقلالية تعرضت لضربة مع تفجر الحرب في أوكرانيا، حيث كانت باريس تقود أوروبا في بناء قوة ردع أوروبية مستقلة عن حلف شمال الأطلسي، وكان من المفترض أن تتسارع وتيرة تشكيل هذه القوة لولا الحرب الأوكرانية التي جعلت جميع الدول تعود إلى الاحتماء بالمظلة المتوفرة، وهي حلف الناتو.

في بدايات الحرب الأوكرانية، كان الموقف الفرنسي قريباً من الموقف الأمريكي. فالدولتان أطلقتا عبر مسؤوليهما تصريحات متقاربة عن حزمة أهداف تتمحور حول حماية وحدة أوكرانيا واستقلالها، و«إضعاف روسيا». لكن تصريحات متتالية للرئيس الأمريكي جو بايدن نقلت الموقف الرسمي الأمريكي إلى مستوى آخر، فباتت هناك على الأجندة حديث عن «هزيمة روسيا» و«تغيير نظامها» ووصف بوتين بأنه قاتل ويرتكب إبادة في أوكرانيا. امتنع ماكرون عن مجاراة الموقف الأمريكي تجاه بوتين، ورفض إطلاق أوصاف تسيء إلى الرئيس الروسي.

حلول تفاوضية

يشرح أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية، توفيق إكليمندوس، أبعاد الموقف الفرنسي، موضحاً أن «التصريحات الفرنسية، التي تميل لصالح علاقات جيدة مع روسيا، يواجهها على الأرض موقف مغاير يتمثل في تقديم مساعدات عسكرية لكييف، فضلاً عن المشاركة في العقوبات الأوروبية على روسيا».

ويشير في الوقت نفسه إلى أن موقف ماكرون من روسيا ثابت منذ توليه الحكم، فالرئيس الفرنسي يعتقد بأن «الولايات المتحدة طرف لا يُعتمد عليه (إبان كان الرئيس ترامب في الحكم) وأنه يجب بذل مجهود كبير لمنع قيام تحالف صيني روسي. ومن هنا جاءت العلاقات بين ماكرون وبوتين. هذا موقف شخصي لماكرون تعارضه فيه أغلب النخبة الفرنسية».

ويضيف: ثمة عديد من المبررات التي يتبناها ماكرون في هذا الإطار، من بينها أنه يستفيد من قراءة عالم الاقتصاد الإنجليزي جورج كينز، لمؤتمر فرساي (التي أنهت الحرب العالمية الأولى)، إذ كان كينز يعتقد بأن فرنسا بالغت في إهانة ألمانيا وعقابها، وهو ما أسهم بعد ذلك في اندلاع الحرب العالمية الثانية. يستند ماكرون إلى تلك المقاربة لتفادي أخطاء فرساي ولا يريد إهانة روسيا.

روسيا لن تختفي

يعد الجنرال بوركهارد، رئيس أركان الجيش الفرنسي، الأكثر وضوحاً في تمييز الموقف الفرنسي عن الحلفاء الغربيين. ففي مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز ووكالة الأنباء الفرنسية، خلال زيارة إلى إستونيا الأسبوع الماضي، حدد بوركهارد بحزم «إن مصلحة الدول الأوروبية هي إضعاف روسيا». وعلى حد تعبير مراسل النيويورك تايمز في باريس، كونستانت ميهوت، فإن كلمات الجنرال الفرنسي بدت لوهلة وكأنها تعكس كلمات وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن.

ولكن تماشياً مع ماكرون للحفاظ على خط دبلوماسي مفتوح مع نظيره الروسي، أضاف الجنرال بوركهارد أن إضعاف روسيا لا يعني القضاء عليها، وأن الغرب قد يحتاج إلى العمل مع روسيا لبناء «هيكل أمني عالمي» في المستقبل.

وتمييز الموقف الفرنسي عن البريطاني والأمريكي، ليس متنافراً للغاية، فهناك خيط رفيع لكنه جوهري. يريد الجنرال بوركهارد من الغرب الاستفادة من تعثر روسيا في السيطرة على أوكرانيا، مضيفًا إن الدول الأوروبية بحاجة إلى فك «شباك العنكبوت» التي نسجتها موسكو حول أوروبا. لكن الجنرال بوركهارد قال إنه مهما كانت نتيجة الحرب، فإن «روسيا لن تختفي» وسيتعين أخذها في الاعتبار في المحادثات المستقبلية بشأن الأمن الأوروبي.

والجدير أنه على عكس الدول الأوروبية الأخرى، امتنعت فرنسا عن إرسال كميات كبيرة من الأسلحة إلى أوكرانيا، وهو مؤشر على رغبتها في عدم تصعيد التوترات، ولكن أيضًا لمخزوناتها المحدودة من الأسلحة وقدراتها الإنتاجية. وقالت فرنسا الأسبوع الماضي إنها أرسلت معدات عسكرية بقيمة 100 مليون يورو حتى الآن. وهذا أقل من إستونيا وألمانيا، اللتين عرضتا أسلحة بقيمة 220 مليون دولار و140 مليون دولار على التوالي حتى تاريخ 9 مايو، وفقًا لقاعدة بيانات أعدها معهد كيل للاقتصاد العالمي، وهو مركز أبحاث ألماني.

سياسة المكيالين

يقول الكاتب والباحث في الشؤون الأوروبية، نزار الجليدي، في تصريحات لـ «البيان»، إنه ما من شك أن ماكرون قد لعب دور المُخاطب الأول مع بوتين منذ اندلاع الأزمة في أوكرانيا، وذلك بصفتين؛ الصفة الأولى أن باريس تترأس مجلس الاتحاد الأوروبي لمدة ستة أشهر، والصفة الثانية أنها دولة نووية وعضو بمجلس الأمن الدولي.

ويشير إلى أن السياسة الخارجية الفرنسية هي سياسة المعيارين؛ فمن جهة تدعم باريس اللاجئين الأوكران وتدعم جهود الولايات المتحدة في الحرب بالوكالة والدفع بالأسلحة في أوكرانيا، ومن جهة أخرى تسعى إلى الدفع للحوار.

ويعتقد الجليدي بأن «ماكرون قبل الانتخابات ليس ماكرون بعدها» وهي الانتخابات التي أُحرج فيها بسبب مواقف فرنسا والتي استغلها في الآن ذاته، وهو يعرف حالياً حجم الإحراج الشعبي في ظل ارتباطه الوثيق والتبعي لأمريكا والأموال التي تضخها فرنسا -العاجزة عن ترميم اقتصادها- بحلف الناتو من أجل المساعدات ومن أجل أوروبا، على حد وصفه.

ويشدد الكاتب والباحث في الشؤون الأوروبية، على أن تكاليف هذا الارتباط يحرج الرئيس الفرنسي في الداخل، بينما هو على أبواب انتخابات تشريعية شعارها الأول المقدرة الشرائية للفرنسيين، وشعارها الثاني أين تذهب أموال فرنسا لأجل أوروبا في ظل الوضع الاقتصادي للفرنسيين، وبالتالي يعتبر ماكرون في فلك الممنوع السياسي الآن بسياسة المكيالين التي يستعملها، على حد تعبيره.

تسليح محدود

في النهاية، تبقى قدرة فرنسا على التحرك في موقع وسط بين الغرب وروسيا، من دون التوافق مع الولايات المتحدة ودول حلف شمالي الأطلسي، محدودة؛ وخاصة في ظل اضطرار ألمانيا إلى التراجع عن مواقفها الحذرة بداية الحرب في أوكرانيا. ومن المتوقع أن تتعرض فرنسا إلى ضغوط غربية للانضمام إلى المسار الحاد في مساندة أوكرانيا وتسليح القوات الأوكرانية.

Email