ريبورتاج

مترو موسكو.. أسرار وأساطير تحفة تحت الأرض

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المستحيل تخيل مدينة موسكو من دون المترو، الذي يعتبر كذلك مدينة تحت الأرض، بقوانينها الخاصة بها وإيقاع الحياة فيها والمشاهد التي تحتويها. مترو موسكو مدينة تحت الأرض، يعمل ككائن حي مستقل بذاته، لكنه في الوقت نفسه جزء لا يتجزأ من العاصمة الروسية، وأحد أبرز معالمها التاريخية، وهو كذلك متحف ضخم، ونقطة انطلاق لجميع أنواع الابتكارات في قطاع النقل.

هندسة معمارية تجمع بين القديم والمعاصر، وتصاميم ومنحوتات وتماثيل عملت من مواد التشطيب الطبيعية باهظة الثمن. وتبقى المحطات القديمة لمترو موسكو الأكثر إثارة للاهتمام، فهو ليس مجرد وسيلة مواصلات سريعة تحت مدينة ضخمة، بل متحف مترامي الأطراف وفرصة لاستكشاف تاريخ روسيا وعاصمتها.

 

وخلال تاريخه، لم يتوقف عن العمل إلا ليوم واحد فقط، وذلك في فترة الحرب العالمية الثانية، عندما كانت السلطات على وشك إصدار قرار بتفجيره، بسبب تهديد الجيش الألماني بالاستيلاء على موسكو.

ومنذ افتتاحه في 15 مايو 1935 وحتى اليوم، يعد وسيلة النقل الرئيسة للمدينة. ومع كل عام، يصبح أكثر ملاءمة واتساعاً، بما في ذلك بفضل القطارات الجديدة. نحن نتحدث عن تطور القطارات في مترو موسكو من افتتاحها إلى يومنا هذا.

 

 

بدء المشروع

ظهرت فكرة إطلاق سكة حديد تحت الأرض في موسكو قبل نصف قرن من بدء تنفيذ المشروع، من عام 1875 إلى عام 1930، عندما تم تقديم خمسة مشاريع إنشاء مترو على الأقل، لكن العمل لم يبدأ إلا في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما أصبح من الواضح تماماً أن النقل العام، الذي يمثله الترام أساساً، لا يكفي، وعاجز عن التعامل مع حركة نقل الركاب ومعالجتها، سيما بعد حادثة ازدحام مروري في 6 يناير 1931، أدت لتوقف جميع وسائل النقل في المدينة ليوم كامل، من الترام إلى سيارات الأجرة، وعندها بدأ بناء شبكة المترو في المدينة.

لكن رواية أخرى تقول إن مشاريع بناء مترو في موسكو ظهرت أول مرة حتى قبل الثورة، في نهاية القرن قبل الماضي، لكنها واجهت معارضة من رجال الدين، الذين اعتبروا أنه لا ينبغي لأي شخص أن يتجول في «العالم السفلي».

في ديسمبر 1931، جاء سبعة عمال إلى فناء أحد المنازل في وسط العاصمة، ليبدؤوا بدفع مجارفهم في الأرض المتجمدة. وبعد شهر، كان العمل على قدم وساق في جميع أجزاء الخط الأول لمترو موسكو.

في البداية، لم تكن الخطة تتضمن حفر الأنفاق في أعماق كبيرة تحت الأرض، لأن ذلك كان يتطلب حفر المدينة بأكملها، قبل أن يقترح أحد المهندسين الشباب حلاً يقوم على الحفر في العمق. ورغم أن الفكرة أدت لحالة غير متوقعة في موجة من الاحتجاجات، فإنها راقت لزعيم البلاد آنذاك جوزيف ستالين، الذي وافق على مشروع الحفر العميق.

كان البناء صعباً وبطيئاً، فلم تكن هناك خبرة كافية وأشخاص مؤهلون، ما دفع بالسلطات السوفييتية للاستعانة بخبراء أجانب للحصول على المساعدة. وفي عام 1934، ظهر ما كان يسمى بـ«فوج الأنفاق الإنجليزية»، وقام السوفييت بتشكيل نموذج مشابه له وعلى الطراز ذاته، فأصبح العمل يتقدم بشكل أسرع وبدفعة واحدة، وفي 15 أكتوبر 1934 تحرك أول قطار في تاريخ المترو في روسيا.

وخلال أقل من عام، تم افتتاح 13 محطة مترو، حملت أغلبها تسميات ترتبط بالمرحلة السوفييتية، كمحطة «مكتبة لينين»، و«الكومنتيرن» و«الكومسومول»، وغيرها. أما بناء المرحلة الثانية من المترو فاكتمل في العام 1938.

وتم تنفيذ البناء تحت شعار «لنقم بإنشاء قصر للناس». لذلك تميزت الهندسة المعمارية لمترو الأنفاق بالهيبة والوقار، وجاءت تصميمات محطات المترو لتحاكي روائع الفكر المعماري، ما جعلها موضع تقدير من قبل الخبراء الأجانب. وفي عام 1939، حصل تصميم محطة «ماياكوفسكي» على الجائزة الكبرى في المعرض العالمي في نيويورك.

خلال الحرب العالمية الثانية، جرى استخدام المترو كمأوى من القذائف الألمانية. وخلال الغارات الجوية، تجمع هناك ما يصل إلى نصف مليون شخص، تمركزوا على أرصفة القطارات وفي الأنفاق. وسرعان ما أصبحت الحياة تحت الأرض أمراً مألوفاً، فتم افتتاح المتاجر وصالونات الحلاقة ومكتبات ومستشفيات وقاعات للاجتماعات. وتشير الإحصاءات إلى أنه خلال الغارات على المترو، ولد 217 طفلاً. كما كانت هناك أقسام من هيئة الأركان العامة في المترو تحت الأرض، وكانت المسارات مسيجة، ولم تتوقف القطارات عند المحطة لأسباب أمنية.

ولكن ذات يوم كاد المترو يدمر، فعندما بدأت القوات الألمانية بالاقتراب من موسكو، جرى التخطيط للغم المترو جزئياً وتلغيمه في أجزاء أخرى، وبتعبير آخر تدميره لمنع استخدامه من قبل الألمان. وفي صباح يوم 16 أكتوبر 1941، توقف المترو عن العمل لأول مرة في تاريخه، لكن بحلول المساء، تم إلغاء أمر التدمير.

إيقاف الحركة

وخلال الغارات، كانت إدارة المترو تتصرف وفقاً للتعليمات الموضوعة: إيقاف حركة القطارات، وفصل التيار الكهربائي عن سكة التلامس، وإجلاس الأمهات اللواتي لديهن أطفال وكبار السن بأفضل المقاعد على أرصفة المحطات وفي القطارات، أما الباقون، فاختبؤوا في الأنفاق على مسارات مغطاة بأرضيات خشبية خاصة. ومع أنه في البداية اشتكى الناس من الاحتقان الذي لا يطاق، إلا أنه تم حل هذه المشكلة بسرعة عن طريق تركيب نظام تهوية إضافي.

وتم تجهيز محطات المترو بأنظمة حماية إضافية من الغاز (كانت هناك معلومات عن أن الألمان كانوا في طريقهم لاستخدام الأسلحة الكيميائية) وإمدادات المياه. كما تم بناء الردهات بعيداً عن منصات توقف القطار، حتى لا يخمن المغيرون مكان إلقاء القنبلة من المدخل. ورغم أن غارات القصف المكثفة انتهت في صيف عام 1942، فإن المترو احتفظ رسمياً بصفته كملجأ حتى نهاية الحرب تقريباً.

وأنقذ مترو موسكو أرواح الملايين. وكانت ليلة 23 يوليو 1941 الأكثر مأساوية، عندما توفي 14 شخصاً بسبب قنبلة سقطت في أحد الأنفاق الضحلة. كما تسبب تسرب المياه من أنبوب تالف في تشكل حفرة في الأرض، سُحق بسببها حشد من 46 شخصاً هرعوا إلى المحطة عند سماعهم إشارة الغارة.

في خمسينيات القرن الماضي اتخذت الحكومة السوفييتية قراراً بإلغاء مظاهر البذخ في التصميم والبناء، وبدأ بناء المحطات يتخذ منحى ليس وفقاً للتصميمات الفردية، ولكن وفقاً للتصاميم النمطية العامة. وكنتيجة لذلك، بدت المحطات التي بنيت آنذاك أبسط من سابقاتها، وكان بناؤها أكثر اقتصاداً. لكن السعي وراء الاقتصاد في التكاليف أدى لارتكاب أخطاء جسيمة ليس فقط في التصاميم، بل وفي الهندسة، أثرت بشكل سلبي على سهولة استخدام قاطرات المترو، وسرعان ما أصبحت المحطات الجديدة في حالة سيئة، وتحتاج لأعمال صيانة دائمة.

محطات جديدة

واستمر مسار التبسيط الذي اتخذ في الخمسينيات حتى عام 1970، عندما ظهرت محطات جديدة بردهات زجاجية، في ردهاتها منصات تحوي 40 عموداً في صفين متقابلين، ولم تختلف المحطات الجديدة عن بعضها البعض إلا في لون البلاط وبعض التفاصيل غير بالغة الأهمية، لكنها مع ذلك حافظت على تصميم لائق.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تم إعطاء أسماء جديدة لخطوط المترو، بعد استبدال الأسماء الشيوعية لعشر محطات كـ«شارع ماركس»، و«المنجل والمطرقة»، وغيرها. وفقط محطة «مكتبة لينين» و«ساحة إيليتش» احتفظتا بأسمائهما السوفييتية الشهيرة.

ولكن إذا كان المترو في العهد السوفييتي تلقى إعانات سخية من خزينة الدولة، فقد انخفض تمويله بشكل كبير في فترة ما بعد الانهيار. وعلى خلفية التضخم المفرط، انخفضت هذه المبالغ بشكل كبير، وبدأت إدارة المدينة برفع شعار «لا توجد أموال». كما أن اللجوء لسد العجز في التمويل من خلال استخدام محطات المترو لنشر اللوحات الإعلانية والملصقات، لم يحقق ربحاً كافياً.

على الرغم من الموارد المالية المحدودة، فإن المترو في التسعينيات لا يبدو سيئاً على الإطلاق، ويرجع السبب في ذلك إلى أن تصميم وبناء العديد من المحطات تم خلال حقبة الاتحاد السوفييتي، عندما كانت تتوفر الأموال. وحينها شارك قدامى المهندسين المعماريين في هذه العملية، لذلك كانت النتيجة واضحة في أن تكاليف البناء كانت أقل. واستمرت عملية توسيع شبكة الأنفاق وبناء المحطات الجديدة، لكن بفارق واحد تقريباً: غياب الرموز السوفييتية، واستبدال تصاميم البناء والديكورات من النمط السوفييتي إلى النمط الروماني، والأنماط الأخرى العصرية.

وتميزت الأعوام الـ25 التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي بمرور مترو موسكو بعدة مراحل من تطوره: من فترة التقشف الحاد في التسعينيات إلى الرفاهية الروسية الجديدة والبناء المتسارع النموذجي في العقد الأول من القرن الـ21، حيث بدأ العمل على وضع ابتكارات حديثة، تراعي تحسين الإضاءة، وتحديث القطارات والتحول التدريجي، لكن السريع في استخدام التقنيات الرقمية التي توفر راحة إضافية للركاب.

وخلال هذه الفترة، تغيرت الأجرة وطريقة الدفع عدة مرات، وكذلك طريقة المرور في مترو موسكو، فجرى إعادة تصميم بوابات المرور لتصبح دوارة. وفي وقت لاحق، تم الاستغناء عن قطع النقود المعدنية، واستبدالها ببطاقات بلاستيكية أقل كلفة، إلى جانب إمكانية استخدام برنامج خاص في الهواتف الذكية لدفع رسوم الرحلة.

وأدى ازدياد حركة الركاب في المترو بسبب تزايد عدد السكان في العاصمة، وإنشاء مناطق سكنية جديدة على مشارف المدينة، إلى تدفق الركاب بشكل حاد، لا سيما في المحطات الواقعة على أطرافها خلال ساعة الذروة.

وأسهم ظهور هذا «الحمل الزائد»، إضافة إلى الأخطاء السابقة في تصميم المترو في خلق مشاكل في شبكة المواصلات. ونتيجة لذلك ازدادت الحاجة إلى إيجاد حلول جديدة لأزمة النقل، تقوم على بناء محطات جديدة وخطوط مترو أنفاق، لا سيما في المناطق الواقعة على أطراف المدينة.

واليوم يستمر المترو في الانتشار في جميع أنحاء العاصمة، بل وتجاوز حدودها. وفي أقل من سبع سنوات، افتتحت 55 محطة جديدة و101 كيلومتر من الأنفاق، أي أكثر بكثير مما كانت عليه في أي فترة أخرى من بناء المترو.

 

 

حقائق

لا يعد مترو موسكو الأكثر تعقيداً من حيث البناء في البلاد، بل وتدور حوله أساطير مختلفة، من أبرزها أنه عند تصميم خطوط المترو الرئيسة قامت الحكومة السوفييتية آنذاك ببناء أنفاق موازية ذات إجراءات أمنية مشددة، بهدف إخفاء أسرار البلاد. ولم يتم تشييد ممرات تحت الأرض فقط، بل تم أيضاً بناء ملاجئ في حالة الحرب، فضلاً عن أن أكثر اجتماعات الحكومة السوفييتية سرية جرت في مترو الأنفاق.

ولعل هذا ما يفسر الدور الكبير لمترو موسكو خلال سنوات الحرب والحصار الذي تعرضت له المدينة، حيث كان من الضروري إخلاء السلطة العليا حتى لا يعلم أحد بخروجها من المدينة. كما من المعروف أنه تم مد الأنفاق بالقرب كذلك من المباني والمقرات الأكثر حساسية آنذاك، كالكرملين ومقر الحكومة وهيئة الأركان والمخابرات، بحيث كان من الممكن في وقت الحاجة النزول من هذه المقرات مباشرة إلى النفق تحت الأرض ومغادرة موسكو.

وحتى يومنا هذا، لا تزال حياة مترو الأنفاق مليئة بالعديد من الأسرار والأساطير غير المكشوفة.

كما يعتقد كثير من سكان المدينة أن المعلومات حول «مترو الأنفاق الحكومي» هي سرية. وهناك رأي مفاده أن مئات المواقع العسكرية الاستراتيجية مخبأة تحت الأرض، وأن رفع السرية عنها يشكل خطورة على الأمن القومي.

ومن أحد الأسرار الرئيسة لمترو موسكو هو ما يسمى بـ«مترو-2»، كما هو مذكور في الوثائق الرسمية، وهو عبارة عن نظام اتصالات حكومي تحت الأرض يربط جميع المرافق الاستراتيجية ليس فقط في المدينة، ولكن أيضاً خارج حدودها.

وتمتد الأنفاق إلى مدن تحت الأرض في مناطق رامينكي وبوشكينو، وفنوكوفو، وغيرها. كما تم بناء أكثر من 150 كيلومتراً من خطوط «مترو-2» السرية، بما في ذلك خط بطول 60 كيلومتراً إلى مدينة تشيخوف، وإلى مطاري فنوكوفو ودوموديدوفو.

ومن المهم الإشارة إلى أن المنشور السنوي لوزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» الذي صدر في العام 1991 تحت عنوان «القوات المسلحة السوفييتية»، نشر خريطة تضم ثلاثة خطوط مترو خاصة، قالت إنها تربط نقطة تحت الأرض أسفل الكرملين بعدة مراكز قيادة في الضواحي والمدن تقع على عمق 200-300 متر تحت الأرض.

ومن القصص المثيرة أن بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تجول بالمترو السري في وقت مبكر من رئاسته مع اثنين من جنرالات الناتو، ما أصاب جهاز الأمن الفيدرالي بالصدمة، وقام على إثرها بتقييد الوصول إلى هناك حتى على الأشخاص الأوائل في الدولة.

كما تقول إحدى الأساطير أن هناك مدينة كاملة تحت الأرض تم بناؤها في رامينكي في أواخر السبعينيات، وتقع على عمق 120 متراً، وقد تم بناؤها كملجأ من القنابل لاستيعاب 12-15 ألف شخص.

وكما هو الحال مع كثير من الأماكن القديمة الموجودة تحت الأرض، يشاع حول مترو موسكو شائعات عن أشباحه الخاصة، وأرواح الأشخاص المفقودين في الأنفاق، وكذلك الجرذان العملاقة القادرة على ابتلاع شخص كامل، لكن كل هذه على الأرجح حكايات لأشخاص يريدون جذب الانتباه إلى أنفسهم.

وبشكل عام، تضخ مضخات قوية المياه الجوفية من المترو على مدار الساعة. وإذا لم يتم ذلك، فستغرق الأنفاق تحت الأرض بسرعة كبيرة.

ولتوجيه الركاب المكفوفين وضعاف البصر، يتم الإعلان عن المحطات بصوت ذكوري أثناء انتقال القطارات إلى مركز المدينة، وبصوت أنثوي أثناء الحركة من المركز. وعلى الخط الدائري، عند التحرك باتجاه عقارب الساعة، يعلن صوت ذكوري اسم المحطة، وعند التحرك بعكس اتجاه عقارب الساعة، بصوت أنثوي.

كما تهب الرياح باستمرار في مترو موسكو، ليس فقط بسبب التهوية، ولكن أيضاً لأن القطارات، التي تتحرك عبر الأنفاق، تدفع الهواء كالمكابس داخل الأسطوانات.

وفي عام 2019، أجرى ركاب مترو موسكو أكثر من 2.5 مليار رحلة. وحالياً يبلغ عدد محطات المترو في العاصمة الروسية 241 محطة، بشبكة أنفاق يبلغ طولها 414 كيلومتراً، تسمح للركاب بالانتقال بسرعة من أحد طرفي العاصمة إلى الطرف الآخر دون مشاكل ودون ازدحام مروري.

كما يحتوي المترو على 370 ردهة وأكثر من 6 آلاف عربة قطار و3.7 آلاف باب دوار و5.7 آلاف إشارة مرور و900 سلم متحرك بطول إجمالي يصل لـ37 كيلومتراً و17 ألف كاميرا مراقبة.

Email