بوتين.. ومسيرة حكم «الديمقراطية السيادية»

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل 21 عاماً، في السابع من مايو من العام 2000، وهو العام الذي ودع فيه العالم القرن الـ20 شهد قصر الكرملين، الحفل الرسمي لتنصيب فلاديمير بوتين في منصب رئيس روسيا الاتحادية.

يعد بوتين من أحد أهمّ قادة العالم، وأكثرهم تأثيراً منذ رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل، ولعبت الظروف دوراً حاسماً ليصبح رئيساً لروسيا، حيث لولا تنحّي بوريس يلتسين المريض واليائس، واختياره بوتين خلفاً قادراً على الحفاظ على سلطته، وضمان الحصانة لعائلته، أو لو عيّن يلتسين ببساطة أحداً سواه، لكان تاريخ روسيا قد اختلف كثيراً عمّا هو عليه الآن.

ومع تولّي بوتين دفّة القيادة، انقلب النّظام السّياسي في روسيا رأساً على عقب. لقد أمضى بوتين معظم السنوات الأولى من حكمه، في إعادة بناء «سلطة عمودية» تُهيمن على الصّلاحيات التّنفيذية والأقاليم، بالتّزامن مع حركة مؤسسيّة سوفييتية انتقامية ورقابة مضاعفة على الاقتصاد وأجهزة استخباراتيّة محوريّة، وبالنّتيجة، انبثق عن فترة حكمه توجّهان أيديولوجيّان واضحان،

أوّلهما الشعبويّة الموالية للغرب، وفي إطارها، وقفت روسيا على الحياد من «منظمة حلف شمال الأطلسي»، واتخذت موقفاً مؤيّداً للولايات المتحدة، وتبنّت سياسات إصلاحية في السوق الحرة في الدّاخل. واستمرّت هذه المرحلة البوتينية لغاية 2006-2007 تقريباً.

وتجسّد ثاني التّوجهين في «السيادة»، بدءاً من اعتناق «الديمقراطية السّيادية»، التي استحدثها المساعد الرّئاسي المؤثّر فلاديسلاف سوركوف، وأراد من خلالها الإيذان ببدء تحوّل روسيا عن الغرب، مروراً بانتقاد بوتين اللاذع للسياسات الأمنية العالمية، خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن» في 2007، وصولاً إلى قرار ضمّ شبه جزيرة القرم في 2014، وما أعقبهما من مفاهيم جديدة، على رأسها العزلة والاقتصاد السّيادي، إذ يصر بوتين على ضرورة أن يكون العالم المعاصر متعدد الأقطاب، وانعكست سياسات روسيا الخارجية أثناء أولى فترتي حكمه في ظهور مصطلح «الديمقراطية السيادية»، ما يعني عدم خضوع الدولة الروسية لنفوذ قوى عالمية أخرى.

وفي عام 2004 أعيد انتخاب بوتين لولاية رئاسية ثانية، غير أنه بعد توليه الرئاسة خلال ولايتين متتاليتين، لم يشارك بوتين في انتخابات العام 2008، وأعلن عن تأييده لترشيح دميتري مدفيديف لهذا المنصب، وبعد فوز الأخير، شغل بوتين منصب رئيس الحكومة في عهده، وفي العام ذاته، تم إجراء تعديلات على الدستور، باتت فترة الولاية الرئاسية بموجبها، 6 سنوات.

في عام 2012 أصبح بوتين رئيساً لروسيا مرة أخرى، وفي عام 2018 فاز في الانتخابات بدعم قياسي- أكثر من 56.4 مليون ناخب صوتوا لصالحه.

بقي بوتين، وكما في السابق، مخلصاً للمسار الاجتماعي، وملتزماً بالتنمية المستقرة للبلاد، ومستعداً للحوار مع الدول الأخرى، ولكنه في الوقت ذاته بقي صلباً في موضوع حماية مصالح روسيا في الساحة الدولية، وضمان السلام والأمن لروسيا، ورفاهية مواطنيها.

وُلد فلاديمير بوتين في مدينة لينينغراد (بطرسبورغ حاليا)، في يوم 7 أكتوبر عام 1952، تخرج في عام 1975 في كلية الحقوق بجامعة المدينة المذكورة، وباشر بعد ذلك العمل في لجنة أمن الدولة (كي جي بي)، ووفقاً له، كان يحلم بالعمل في الأجهزة الأمنية منذ دراسته في المدرسة.

في الفترة من 1958 إلى 1990، عمل بوتين في شبكة الاستخبارات السوفييتية في درسدن بألمانيا الشرقية، بعد ذلك عمل مساعداً لرئيس جامعة لينينغراد الحكومية، ومن ثم عمل في فريق عمدة بطرسبورغ أناتولي سوبتشاك، وفي نهاية التسعينيات، تم تعيين بوتين في منصب مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وفي أغسطس عام 1999 تم تعيينه بمنصب رئيس الوزراء.

استقالة رئيس

في ليلة رأس السنة عام 2000، أعلن الرئيس بوريس يلتسين عن قراره بالاستقالة، وسلم الصلاحيات الرئاسية لرئيس الوزراء حينها بوتين، حتى الانتخابات الرئاسية في 26 مارس عام 2000، لاحقاً أكد بوتين أنه في البداية رفض عرض يلتسين، لكنه وافق لاحقاً، في تلك الانتخابات فاز بوتين في الجولة الأولى، وحصل على 52.94% من الأصوات.

وفي العام الماضي، تم تعديل الدستور الروسي مرة أخرى، وحظيت التعديلات بتصويت 77.9 في المئة لصالحها، مقابل تصويت 21.3 في المئة ضدها، بحسب اللجنة الانتخابية، وبمقتضى ذلك لن تحتسب الفترات الرئاسية التي قضاها بوتين حتى عام 2024، بما يسمح له بقضاء فترتين أخريين مدة كل منهما ست سنوات.

وكان بوتين منذ بداية حكمه يتبع نهجاً يهدف إلى إخراج البلاد من الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العميقة، التي هزتها في فترة حكم يلتسين، وذلك عن طريق إطلاق سلسلة إصلاحات إدارية وقضائية واقتصادية واجتماعية وغيرها.

ويعتبر الباحثون أن بوتين في مستهل فترة حكمه توصل إلى اتفاق غير رسمي مع رجال الأعمال البارزين المقربين من الحكم، منذ عهد يلتسين، حيث وافق على عدم ملاحقتهم مقابل عدم تدخلهم في إدارة البلاد.

وأعلن بوتين في بداية عهده حرصه على «تعزيز هرم الحكم» في البلاد، وتزامنت أولى سنوات حكم بوتين مع تعزيز مواقع الحزب الحاكم الجديد في البلاد، «روسيا الموحدة»، حيث حصل الحزب على الأغلبية الساحقة من المقاعد البرلمانية في الانتخابات البرلمانية عام 2003، ما أتاح لبوتين تجاوز إحدى أهم مشكلات عصر يلتسين، وهي خلافات حادة بين الرئاسة والبرلمان.

كوارث مأساوية

وشهدت روسيا في أولى فترتي حكم بوتين سلسلة كوارث مأساوية هزت البلاد، ونالت من شعبية الحكومة، بما في ذلك كارثة غواصة كورسك في أغسطس عام 2000، مكلفة البلاد أرواح أفراد طاقمها الـ118، علاوة على العمليتين الإرهابيتين في مسرح بموسكو في أكتوبر 2002، حيث قتل 130 من الرهائن المحتجزة من قبل المتطرفين، وفي مدرسة بمدينة بسلان في سبتمبر 2004، وهي أسوأ أزمة احتجاز رهائن في تاريخ روسيا، وأسفرت عن مقتل 333 شخصاً، معظمهم من الأطفال، فضلاً عن 10 قتلى من عناصر الأمن أثناء عملية اقتحام المدرسة، ما يعد أكبر خسائر للقوات الخاصة الروسية في عملية واحدة.

واستدعت هذه الكوارث تساؤلات جدية بشأن عجز السلطات عن منعها، وسبل تعامل أجهزة الأمن معها، ما أدى إلى إجراء إصلاحات ملحوظة في مجال الأمن، وطرح بوتين عند توليه مقاليد الحكم إحدى أولوياته في استعادة قوة الجيش الروسي، بغية رفع القدرات الدفاعية للبلاد، واستؤنفت أثناء تلك السنوات المناورات العسكرية واسعة النطاق لاختبار جاهزية الجيش. وأطلق بوتين في بداية فترته الرئاسية الأولى حرباً على الفساد، وأقر سلسلة قوانين، تجبر المسؤولين على المحاسبة بخصوص دخلهم ومنعهم من امتلاك الأصول المصرفية خارج البلاد.

وفي المجال الاقتصادي، شهدت روسيا أثناء أولى فترتي حكم بوتين نمواً ملموساً مقارنة مع معدلات عهد يلتسين، حيث أشارت مجلة «وول ستريت جورنال» إلى أن الاقتصاد الروسي لم يستعد جميع المواقع التي خسرها في التسعينيات فحسب، بل وتمكن من إنشاء قطاع الخدمات الذي لم يكن موجوداً في فترة الاتحاد السوفييتي.

وقبيل انتخابه للولاية الرئاسية الثانية في عام 2004 (71% من أصوات الناخبين)، طرح بوتين أمام حكومته هدفاً طموحاً لمضاعفة الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ثم قلّص هذه الفترة إلى ست سنوات بعد إعادة انتخابه، وبالرغم من أن هذا الهدف لم يتحقق لأسباب مختلفة، شهدت روسيا خلال تلك السنوات نمواً مستمراً في هذا المعدل المهم. واتسمت فترة بوتين الرئاسية الثانية بتعزيز سيطرة الدولة على أهم القطاعات في الاقتصاد والسياسة والإعلام، مع توطيد مواقفها على حساب نخبة رجال الأعمال والقوى المعارضة.

أمن الدولة

أما بخصوص السياسات الخارجية فكان نهج بوتين في تلك السنوات يهدف إلى ضمان أمن الدولة، وإقامة النظام العالمي الديمقراطي العادل، وتهيئة الظروف الخارجية الملائمة لتطور روسيا التدريجي، وإقامة علاقات حسن الجوار مع الدول المحيطة، واتسمت أولى سنوات حكم بوتين بتطوير العلاقات مع الغرب، وخصوصاً في ظل العلاقات الشخصية الطيبة بين الرئيس الروسي ونظيره الأمريكي حينئذ جورج بوش.

وبعد هجمات 11 سبتمبر، أعرب بوتين عن دعم روسيا المطلق للحرب، التي أعلنتها الولايات المتحدة على الإرهاب الدولي، لكن التوتر في هذه العلاقات بدأ يتصاعد أكثر فأكثر اعتباراً من تدخل الولايات المتحدة وحلفائها في العراق، ما استدعى انتقادات من قبل موسكو.

ويقر معظم الخبراء أن روسيا في أولى فترتي حكم بوتين حققت نجاحات ملموسة، وتمكنت من تثبيت مكانتها في العالم كونها قوة كبرى، مؤكدين أن بوتين أسهم إسهاماً كبيراً في ذلك.

ورأت وسائل الإعلام الروسية والأجنبية في بوتين أول زعيم قوي لروسيا منذ عقود، مثمناً التغيرات الإيجابية التي أحرزت في الاتحاد الروسي أثناء سنوات حكمه، ليصبح الرئيس الروسي في عام 2007 «شخصية العالم» حسب مجلة «تايم» الأمريكية، بفضل زعامته حرصه على تحقيق استقرار بلاده.

واليوم وفي مشهد أشبه بالحرب الباردة، تتصاعد التوترات بين موسكو وواشنطن وحلفائها الغربيين، وسط تبادل طرد الدبلوماسيين وتوجيه اتهامات بالتجسس ضد دبلوماسي أوكراني، وحشد عسكري روسي على الحدود الشرقية لأوكرانيا، وقبالة سواحل شبه جزيرة القرم، مقابل تقارير صحافية تتحدث عن استعداد بريطانيا لإرسال سفن حربية إلى البحر الأسود، غير أن أجواء التهدئة تحوم من جديد بعد عرض تنظيم قمة بين بوتين ونظيره الأمريكي جو بايدن، إلا أن الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن الجانب الروسي لم يتخذ قراره بعد بصدد تنظيم قمة الزعيمين.

وقال بيسكوف رداً على سؤال عما إذا كان الجانب الروسي قد أعطى موافقة رسمية على إجراء اللقاء: «لا نزال ندرس الوضع وما يحيط بتنظيم هذه القمة»، وفي 13 أبريل أجرى رئيسا البلدين اتصالاً هاتفياً كان الثاني منذ تولي بايدن رئاسة الولايات المتحدة.

وبحث بوتين وبايدن العلاقات بين بلديهما، وجملة من القضايا الدولية، وأوضح البيت الأبيض أن بايدن عرض على نظيره الروسي عقد لقاء بينهما في دولة ثالثة، خلال الأشهر المقبلة.

Email