هل تنسحب أمريكا من بحر الصين كما فعلت أوروبا في الكاريبي؟

أسطول حاملة الطائرات الأمريكية رونالد ريغان في بحر الصين الجنوبي / أرشيفية

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ مطلع العام 2020 بات اسم الصين يتردد يومياً في الولايات المتحدة كخصم يحتل الصدارة في منافسة أمريكا على القوة العظمى، أو على الأقل تقاسم النفوذ. الأسبوع الماضي استعاد كاتب العمود في صحيفة بلومبرغ والأستاذ في جامعة جونز هوبكنز، هال براندز، في مقالة له، خطاباً ألقاه الرئيس الأمريكي جو بايدن حين كان نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما، في منتدى الأمن بميونيخ عام 2009.

استخدم براندز في مقالته جملة مستلّة من خطاب بايدن قبل 12 عاماً وذلك ضمن وجهة عامة لما يسوقه الكاتب بخصوص أن أمريكا لن تسمح للصين بتوسيع نفوذها، وساق عدداً من الحجج، الاقتصادية والفكرية لدعم فرضيته.

كانت الجملة التي تحدث بها بايدن ما يلي: «لن نقرّ.. لن نقرّ .. بأي منطقة نفوذ لأي دولة».

سياق هذه الجملة عام 2009 كان غير الذي استخدمه بارندز في مقالته. كان بايدن يجيب عن سؤال حول روسيا حين قامت بالتدخل في جورجيا لصالح جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ويدافع عن مبدأ سيادة الدول واستقلاليتها في إقامة علاقاتها الدولية. في ذلك الحين لم تكن الصين تشكل بعد التهديد الأول للنفوذ الأمريكي العالمي. فبدا بايدن صارماً في رفض التطلع الروسي إلى استعادة مناطق النفوذ السوفييتية السابقة في الجوار القريب، وكانت جورجيا واحدة من ركائز الغرب الجديدة في منطقة القوقاز.

أثار التعبير الذي استخدمه بايدن في الرفض المطلق لأي دولة بامتلاك مناطق نفوذ، بعض المفارقات، واستدعى من الكاتب «إريك بلاك إنك» في «مينيسوتا بوست» كتابة مقالة للتذكير بـ«مبدأ مونرو» الذي أعلنه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في ديسمبر 1823. وكان هذا المبدأ يقوم تحديداً على إبعاد القوى الأوروبية عن القارتين الأمريكيتين، واعتبار نصف الكرة الغربي، في المحصلة، منطقة نفوذ أمريكية.

مؤشرات التراجع

يقول إنك في مقالته المنشورة في فبراير 2009 إنه «إذا أخذنا كلام بايدن حرفيًا وعلى نطاق عالمي فسيكون بيانًا دراميًا وثوريًا للإدارة الأمريكية للتخلي عن سياسة مجالات النفوذ في العلاقات الدولية». لكن، كما توضح، كان بايدن يقصد الآخرين.

لكن الرئيس الأمريكي جو بايدن لم يلجأ لاستعادة تلك العبارة حرفياً مع تسلمه قيادة الولايات المتحدة ورسم مسار سياستها الجديدة. منذ عام 2009، حين كان بايدن يقصد روسيا كخصم مستقبلي محتمل للتفوق الأمريكي. بعد 12 عاماً تغير المشهد. بقيت روسيا قوية، لكن الصين هي التي تتقدم بسرعة قياسية.

على سبيل المثال، أظهر تقرير أممي حديث أن الصين سبقت الولايات المتحدة لتصبح أكبر دولة تتلقى الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال عام 2020. واحتلت الصين المرتبة الأولى، التي شغلتها أمريكا لعقود، بجانب كونها الاقتصاد الكبير الوحيد الذي سجل نمواً اقتصادياً عام 2020، حيث نما بنسبة 2.3%، مما يظهر الوضع القوي لثاني أكبر اقتصاد في العالم.

من المؤشرات الأخرى، في مجالات التفوق غير العسكرية، تسجيل الصين نمواً متسارعاً في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي واستخدامها، وحلت ثانياً بعد الولايات المتحدة، مقابل تأخر واضح للاتحاد الأوروبي. كما تفوقت الصين على أمريكا في عدد براءات الاختراع، في مؤشر علمي غير متوقع على تسارع التقدم الصيني.

سيناريو الكاريبي

في كل الأحوال، يخشى الأستاذ في جامعة جونز هوبكنز، هال براندز، أن تقوم الصين بطرد أمريكا في شرق آسيا كما طردت أمريكا القوى الأوروبية من البحر الكاريبي قبل 200 عام، في إشارة أخرى إلى «مبدأ مونرو». فما تقوم به بكين هو عين السلوك الذي اتبعته امبراطوريات غابرة في التاريخ، ومن مرتكزاتها «مجالات النفوذ». على أن الأكاديمي الأمريكي يحذر في «بلومبرغ» من الأدوات غير التقليدية لدى بكين، فبدلاً من الهيمنة المادية (العسكرية أو الاقتصادية) التي رافقت مناطق النفوذ الكبرى سابقاً، فإن الصين - بحسب براندز - تهدف إلى توفير نفوذ جيوسياسي عبر الربط التقني للدول على مسارات التجارة. وبتعبير آخر يسميه المركزية التكنولوجية (technological centrality) بدلاً من الهيمنة المادية، وهو ما قد يؤدي لاحقاً إلى انقسام العالم ليس إلى شرق وغرب، شمال جنوب، كما كان التقسيم الاعتيادي الجغرافي للقوى الكبرى، إنما إلى «تكتلات تكنولوجية متنافسة».

تعددية القوى العظمى

لا يبدو أن ملامح السياسة الأمريكية في ظل إدارة بايدن، تجاه الصين، تختلف كثيراً عما كان في عهد ترامب، ولا أن الصين ستكون لها مقاربة مختلفة أيضاً. وكان لافتاً خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ، الاثنين، خلال اجتماع لمنتدى اقتصادي عالمي عبر شبكة الانترنت. فقد حث الدول على «التخلي عن التحيز الأيديولوجي»، وهي عبارة ترد في سياق جهود بذلها وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، في حشد تحالف ليبرالي في جوار الصين.

ودعا الرئيس الصيني، بشكل ضمني، إلى تعددية القوى العظمى بقوله إن «كل بلد فريد من نوعه، ولا بلد يتفوق على الآخر»، محذراً من حرب باردة جديدة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى طريق مسدود، ودافع عن التعددية والعولمة والاقتصاد المفتوح وعدم تشييد جدران عالية تفصل بين التجارة والاستثمار والتكنولوجيا.

فعلياً، تحمل كلمات الرئيس الصيني، في مخرجاتها العملية، كل ما تخشاه النخبة الأمريكية الهلِعة من نهاية «القرن الأمريكي» أو وفق تعبير مدير المخابرات المركزية (سي آي.أيه) ويليام بيرنز، مواجهة النسخة الأمريكية من «لحظة السويس»، التي كانت إيذاناً بنهاية القرن البريطاني عام 1956. لكن في الوقت نفسه، تلعب بكين وفق القواعد التي وضعها الغرب بنفسه، في التجارة والاقتصاد ومناطق النفوذ.. والعولمة.

كلمات دالة:
  • البحر الكاريبي،
  • بحر الصين،
  • القوى العظمى،
  • تحالف
Email