صانعو القرار

ويليام بيرنز.. للدبلوماسية حدود

ت + ت - الحجم الطبيعي

ينتقل ويليام بيرنز من المكتب الأكثر ظهوراً في مشهد الدبلوماسية عالمياً، إلى العالم الأكثر غموضاً وسرية، حيث الأساطير ونظريات المؤامرة، إلى جانب الأنشطة الفعلية، تحيط بمسيرة وكالة الاستخبارات المركزية الـ«سي.آي.أيه» ضمن الصورة العامة الإعلامية خصوصاً فيما كان يعرف بالعالم الثالث والدول الاشتراكية السابقة. لمدير الـ«سي.آي.أيه» آلاف الصفحات المنشورة، على شكل كتب ومقالات وندوات ومداخلات إعلامية. يمكن دون إرهاق كبير، الإحاطة بكل ما في ذهنه من خلال قراءة بعض نتاجاته الأساسية، أو حتى الملامح العامة لفكرته عن مستقبل الولايات المتحدة والعالم.

هنا باختصار بعض أبرز ملامح رؤى وتصورات بيرنز عن أمريكا والعالم: أمريكا مشتتة.. الصين تندفع.. روسيا تتقهقر.. أوروبا حائرة، الناتو ارتكب خطأ في التوسع شرقاً، هيمنة أمريكا مؤقتة، سر فشل الرؤساء الأمريكيين اعتقادهم أن السياسة رؤية طويلة الأمد، إنها ليست كذلك.. هي تماماً لعبة قصيرة، ولها حدودها، من يستوعبها ويجيد إدارتها ويعرف حدودها، يربح.

مرحلة انتقالية

خدم المدير الجديد لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي ايه) خمسة رؤساء وعشرة وزراء خارجية منذ مسيرته المهنية في السلك الدبلوماسي الأمريكي. تعيينه من قبل الرئيس المنتخب، جو بايدن، في هذا المنصب على رأس أقوى جهاز استخبارات في العالم، خطوة استثنائية. فبيرنز، السياسي المخضرم، مهندس بارع للسياسات الأمريكية، وتقييماته تحظى باحترام لدى أساطين الدبلوماسية، مثل هنري كيسنجر، وجيمس بيكر.

في مقابلة على منصة معهد كارنيغي بتاريخ 6 يونيو 2018، جادل بيرنز بأن العالم يمر في مرحلة انتقالية كبيرة من عدم اليقين. حيث أشار إلى بروز قوى صاعدة مثل الصين والهند، وتحديات للنظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وثورات في التقنيات الجديدة وتأثيرها المتعاظم في المشهد الدولي وإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي. جادل بيرنز بأن المؤسسات والتحالفات الدولية يجب أن يتم تحديثها لتعكس حقائق القوة الجديدة وأن الدبلوماسية الفعالة ستكون أكثر أهمية من أي وقت مضى.

منذ عام 2017، حين حددت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي كلاً من روسيا والصين، كأخطر خصمين للولايات المتحدة، فإن تتبع رؤية أي مسؤول أمريكي كبير تتطلب بشكل أساسي معرفة رؤيته الخاصة بخصوص كيفية الحفاظ على موقع القوة الأمريكية العظمى. ومنذ اعتلاء ترامب سدة الحكم، بات وجيهاً طرح السؤال المركزي في السياسة الأمريكية في كل دائرة من دوائر الحكم، من الخارجية والدفاع إلى الاستخبارات: البداية من أين؟ التمدد الروسي إلى شرق أوروبا والشرق الأوسط أم الصيني إلى الشرق الأوسط والعالم أجمع؟

الإجابة في عالم السياسة تختلف عنه في عالم الاستخبارات الذي انتقل إليه ويليام بيرنز. لكنه ينتقل بإرث سياسي عملاق، قد يتقاطع الموقعان، السياسي والأمني، في دور «القناة الخلفية» البارز لدى الدائرتين، من أجل الدفع بالسياسة إلى الأمم بعد تعبيد الطريق أمامها عن طريق محادثات سرية، وهو منهج تشترك فيه الخارجية مع الاستخبارات. لكن مع فارق أساسي، وهو أن بيرنز تحدث خلال مسيرته عن كافة جهوده وكذلك رؤى الإدارات التي عمل فيها، أما بعد اليوم، في الـ«سي.آي.أيه»، فلن يمكنه سوى الحديث عن القليل جداً من القرارات التي سيتخذها ويشرف على تنفيذها في العالم.

القرن الأمريكي؟

بحسب بيرنز، فإن صعود الصين هو الظاهرة الأكثر أهمية على الساحة الدولية، وستواجه العلاقة بين الولايات المتحدة والصين تحديات كبيرة، حيث يتكيف البلدان مع التأثير العالمي المتغير لبعضهما البعض. يدرك بيرنز أن «القرن الأمريكي» على مشارف نهايته، وجاء وباء «كورونا» ليسرّع من تحديث النظام العالمي. التنافس الحالي يدور حول مسار هذا التحديث.

في مقالة كتبها في معهد كارنيغي للسلام، في 14 يوليو 2020، بعنوان «الولايات المتحدة بحاجة إلى سياسة خارجية جديدة»، يناقش احتمالين في ضوء تغير الجغرافيا السياسية الدولية بعد الوباء، الأول أن العالم يشهد اللحظات الأخيرة من التفوق الأمريكي، وهو ما يعادل - بحسب بيرنز - لحظة السويس البريطانية عام 1956 (الحدث المعروف بالعدوان الثلاثي على مصر). أما الاحتمال الثاني محل الجدل، فهو أن أمريكا، وهي المحرك الرئيس للنظام الدولي لما بعد الحرب الباردة، قد أصبحت عاجزة مؤقتاً مع وجود ترامب في سدة الحكم. مع تغيير القيادة ستستعيد أمريكا مكانتها بسرعة.

تهيمن مخاوف حرب عالمية على بيرنز، لكنه لا يصدرها للأمام في العلن. وفق رأيه «هناك نظام عالمي أكثر فوضوية يلوح في الأفق بشكل خافت. تشبه هذه اللحظة - في هشاشتها وديناميتها الجيوسياسية والتكنولوجية - الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الأولى».

فيما يتعلق بالصورة العامة للسياسات الدولية، يبدو بيرنز أقرب إلى الرؤى المطروحة في ألمانيا بخصوص تشكيل تحالف ليبرالي عالمي. هناك الكثير من التباين على ضفتي الأطلسي حول هذا الطرح الذي يحظى بتأييد سياسي واسع من حيث المبدأ للحفاظ على سيادة القيم الأساسية للديمقراطية الليبرالية، المتمحورة - نظرياً - حول حقوق الإنسان، وجعله معياراً ذا اعتبار في العلاقات الدولية. بالنسبة لبيرنز، فإنه «قبل وقت طويل من ظهور فيروس «كورونا»، كان النظام الدولي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة أقل ليبرالية وأقل تنظيماً وأقل أمريكية. وقد أدى الوباء إلى تسريع هذا الاتجاه. مع ترنح الولايات المتحدة وحلفائها وتشتت انتباههم وانقسامهم بسبب الوباء، نما طموح الصين في أن تصبح اللاعب المهيمن في آسيا، وكذلك رغبتها في إعادة تشكيل المؤسسات والقواعد الدولية لتناسب رؤيتها».

ضعف روسيا

على العكس من الصين، يرى بيرنز أن روسيا قوة تتلاشى «والرئيس فلاديمير بوتين يتجاهل ضعف روسيا»، مشيراً بشكل خاص إلى انهيار سوق النفط وسوء إدارة موسكو لمرحلة الوباء والهشاشة السياسية. في نظر الدبلوماسي الأمريكي، ومدير الـ«سي آي إيه»، لا يزال بوتين يمثل تهديداً في حزام من الدول المنافسة الأقل قوة، لكنه يعتبر ذلك «نوعاً من التكتيكات التي يمكن أن تساعد القوة المتدهورة في الحفاظ على مكانتها».

كان بيرنز قد حذر في برقية من موسكو عام 1994 من أن العداء الروسي لتوسع الناتو يجب أن يؤخذ جدياً، ولاحقاً عاد إلى موسكو وقدم أوراق اعتماده في الكرملين كسفير عام 2005. يروي في كتابه «القناة الخلفية» أن بوتين سحبه جانبًا وقال له: «أنتم الأمريكيون بحاجة إلى الاستماع أكثر. لا يمكنك الحصول على كل شيء على طريقتك بعد الآن. يمكن أن تكون لدينا علاقات فعالة، ولكن ليس فقط بشروطك».

أوروبا العالقة

أما أوروبا، فهي «عالقة بين الصين الحازمة، وروسيا المتراجعة، وأمريكا المشتتة، والانهيارات السياسية الخاصة بها - ولا شيء أكثر إرباكًا من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي».

هل يمكن إعادة بناء الثقة بين ضفتي الأطلسي؟ لا يبدو ذلك مرجحاً: «الولايات المتحدة تريد أن تقوم أوروبا بالمزيد بأقل قدر من الكلام، وتخشى أوروبا أن تصبح العشب الذي تدوس عليه الفيَلة ذات القوة العظمى».

القناة الخلفية

بحسب العديد من القراءات المتوفرة لكتابه الأشهر «القناة الخلفية»، يبدو الكتاب وكأن أحداثه تدور في عالم لا توجد فيه دولة اسمها الصين. فلا يتطرق في أي من المحاور الرئيسية إلى التنافس الأكثر خطورة حتى الآن منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي. وهذا مبرر، لأن الفترة التي كان فيها بيرنز شاهداً على أحداث مفصلية، كان بعيداً عن ساحة الصين وقضاياها، فالكتاب بمثابة مذكرات سياسية اكثر من رؤية لمستقبل أمريكا، وذلك بالرغم من أن الفصل الأخير من «القناة الخلفية» أشاد به وزير الخارجية الأسبق هنري كسينجر، بعنوان «القوة المحورية: الملاذ الأول»، معتبراً أن ما كتبه بيرنز يعد وصفة لتنشيط الدبلوماسية الأمريكية.

في قراءته لكتاب «القناة الخلفية»، يلتقط ديفيد إغناتيوس، الجانب غير الإيجابي في شخصية بيرنز. كان بيرنز قلقًا بشأن الضغط بشدة على روسيا الجريحة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي من خلال التوسع المفرط لحلف شمال الأطلسي. كان يعلم أن الإطاحة بصدام حسين يمكن أن يزعزع استقرار العراق والشرق الأوسط. شعر أن الإطاحة بحسني مبارك قد تخلق بالمثل الفوضى في مصر.

يضيف إغناتيوس: «عند قراءة البرقيات والمذكرات التي أرسلها إلى رؤسائه، توصلت إلى نتيجتين: أولاً، كان عادةً على صواب في حدسه حول الأخطاء المحتملة التي يجب على الرؤساء تجنبها. لكن ثانيًا، كان عادة ما يوافق على تلك القرارات، حتى عندما كان يشعر أن تنفيذها سيسبب صعوبة». ويختتم: «من المؤلم أن بيرنز، الأفضل والأذكى، لم يتمكن من منع سلسلة الأخطاء التي ساعدت على التراجع عن القرن الأمريكي».

يتحدث بيرنز في كتابه عن إخفاقات العديد من الرؤساء الأمريكيين. ويقول: «كل هؤلاء الرؤساء أرادوا أن يلعبوا لعبة طويلة ذات رؤية. ولكن ما يشغل صانعي السياسات وتشكل غالب إرثهم هي اللعبة القصيرة الأمد». كان هذا صحيحًا بشكل خاص مع الشرق الأوسط، الذي أخطأ من قبل رئيس تلو الآخر، مع أفضل النوايا. ويكتب أن المنطقة «ظلت أفضل مثال من حيث الاختلال والهشاشة».

هيمنة أمريكا مؤقتة

نشر الموقع الآسيوي (Asia Sentinel) قراءة للكتاب في يناير 2020. وخلص إلى أن «واحدة من أهم سمات مذكرات بيرنز هي استعداده لإلقاء نظرة صريحة على إخفاقات الدبلوماسية وكذلك انتصاراتها المتواضعة إلى حد ما، بالنظر إلى الجهود التي بذلت فيها. بالنظر إلى النهاية الدرامية للحرب الباردة، كتب: «كانت لحظة أمريكا أحادية القطب، بحكم التعريف، مؤقتة. حتما ستتضاءل قوتنا النسبية عندما يصبح اللاعبون الآخرون أكثر ثراءً وأقوى وأكثر حزماً. في خضم هذه التحولات الجيوسياسية الدراماتيكية، التي سرّعنا بعضها بأخطائنا، فقدنا أيضًا طريقنا في الدبلوماسية».

وأخيراً، متى تنجح الدبلوماسية؟ يجيب بيرنز في كتابه: «عندما تنجح الدبلوماسية، يكون ذلك عادةً بسبب تقدير حدودها، بدلاً من تجاوزها».

لعب بيرنز دورًا رئيسيًا في إقناع الرئيس الليبي الراحل، معمر القذافي، بالتخلي عن أسلحة الدمار الشامل، ولعب دورًا رئيسيًا في الوصول إلى الصيغة النهائية للاتفاق النووي مع إيران، والذي انسحبت منه الولايات المتحدة في عهد ترامب. وعمل مع روسيا في تليين موقفها من التمسك بالأسلحة النووية، وعمل على تعزيز الشراكة الاستراتيجية لإدارة أوباما مع الهند. وفق تقدير (Asia Sentinel) يبدو أنه كان غير حزبي تمامًا، وعمل مع الإدارة الجمهورية والديمقراطية على حد سواء في توجيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة. مع ذلك، من الواضح أن إعجابه بإدارة الرئيس جورج بوش الأب كبير، بقدر أكبر بكثير من نظرته لجورج دبليو بوش.

إضاءة

يخلف ويليام بيرنز، جينا هاسبيل، مديرة الـ«سي.آي.إيه» منذ عام 2018، التي خلفت بدورها مايك بومبيو، الذي رأس الوكالة في 2017 قبل أن يعيّنه ترامب وزيراً للخارجية.

تقاعد وليام بيرنز من السلك الدبلوماسي في عام 2014 بعدما عمل ضمنه طيلة 33 عاماً، ولا سيما كسفير للولايات المتحدة في روسيا (من 2005 إلى 2008) قبل أن يترأس مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، وهي مؤسسة بحثية حول العلاقات الدولية. وكان أيضاً سفيراً لبلاده في الأردن بين العامين 1998 و2001.

وبيرنز هو ثاني نائب لوزير الخارجية في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما ينضم إلى فريق الأمن القومي لبايدن، بعد انتوني بلينكن، الذي اختير لتولي وزارة الخارجية. وتم تداول اسم بيرنز أيضاً ليصبح وزيراً للخارجية.

Email