انتخابات لبنان.. صناديق مثقلة بـ«التغيير»

ت + ت - الحجم الطبيعي

وأخيراً، حلّ يوم الاختبار الكبير، بين حدَّي قيادة رحلة التغيير الصعب أو الاختفاء والانزواء في المقاطعة والانكفاء. للمرة الأولى في تاريخ لبنان، ربما، يبدو صندوق الاقتراع هو الحدث والبوصلة في آن: انتخابات لا تتعلق بمفاهيم الربح والخسارة، وإنما بمستقبل وطن منهار وسط الشعارات التي زنرت يوميات أبنائه و«أغرقتهم» بقديمها من الكلمات والوعود الرنانة.. فهل صحيح أنه مقبل على التغيير؟

وفي ضوء المؤشرات والاتجاهات التي أودعت صناديق الاقتراع في سائر أنحاء الانتشار اللبناني، والتي أشارت إلى غلبة الاتجاهات المعارِضة والتغييرية في المزاج العام للمغتربين اللبنانيين، يشهد لبنان، اليوم الأحد، محطة الفصل والحسم الانتخابية، أي «المنازلة الكبرى»، على مستوى الدوائر الـ15 في لبنان، مع ما يعنيه الأمر من ترقب نتائجها وما ستفرزه من توازنات، ليُبنى على الشيء مقتضاه. 

وما بين المشهدين، «انفجر» الاغتراب حنيناً إلى لبنان، كما «ينفجر» المقيم سعياً للهجرة.. إنها إحدى المعضلات اللبنانية، المرتبطة هذه المرة بسؤال «يتيم»: هل تكون انتخابات 2022، في مرحلتها الثالثة والأخيرة اليوم، وهي التي يُعول عليها، الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو التغيير؟ التغيير الحقيقي، البعيد كل البُعد عن المشهدية التي رسمت بؤساً فوق بؤس: صور وملصقات ولافتات، بمختلف الألوان والأحجام، احتلت السماء والأرض وما بينهما، ملأت الأبنية والشوارع، ثُبتت على الجسور والجدران والأشجار، عُلقت على حبال الغسيل، وتأرجحت على عواميد الإنارة والكهرباء المطفأة مصابيحها.. ابتسامة مرشح هنا، ويد مرشح آخر مرفوعة بالتحية أو بعلامة النصر هناك.

 

«أم المعارك الانتخابية»

وفي انتظار ما سيكون عليه مشهد «أم المعارك الانتخابية» على رفع نسبة الاقتراع لرفع الحواصل وعلى الصوت التفضيلي، والذي ستتبلور من خلاله لوحة المجلس النيابي الجديد، تجدر الإشارة إلى أن 17 لائحة انتخابية تضمنت أسماؤها كلمة «التغيير»، في مشهد متكامل يُعول عليه، وفق تأكيد الوزيرة السابقة الإعلامية مي شدياق لـ«البيان»، إذ إن الانتخابات النيابية هي «فرصة للتغيير العملي ضمن العمل المؤسساتي»، و«المجتمع الدولي لا يعترف سوى بالمؤسسات»، مع إقرارها باستحالة تطبيق الإصلاحات المطلوبة ومحاربة الفساد بوجود «الدولة الرديفة»، وبمنطق «الاستقواء على الأضعف بقوة السلاح».

«أنا متفائلة، ولا أقبل، ولو فكرياً، بالانهزام»، تقول شدياق، في سياق كلامها عن ضرورة «استرداد إرادة لبنان وهويته وثقافته، كمجتمع متداخل وجسر عبور بين الشرق والغرب»، و«إجراء الإصلاحات على مستوى الإدارة والمرافق العامة، للنهوض بالبلد بتضافر جهود السياديين معاً»، غامزةً من قناة كل من يشكك في القدرة على التغيير، بالتأكيد على الرهان دوماً على «فسحة الأمل».

فسحة الأمل

وإذا كان من المبكر توقع ما سيكون عليه واقع الحال، رئاسياً ونيابياً وحكومياً، في انتظار انتهاء الانتخابات النيابية اليوم وما ستقرره صناديق الاقتراع من توجهات للمرحلة المقبلة، فإن لا وجود لـ«فسحة الأمل» في حسابات الكثيرين، ومنهم «أبو فراس»، الرجل السبعيني الذي عاصر الكثير من الدورات الانتخابية، مستبقاً ما سيكون عليه المشهد وحصيلته بالقول لـ«البيان»: «مع كل دورة انتخابية جديدة، يدور الناخبون في لبنان على أسماء المرشحين على القوائم، وحول من تضمه من وجوه، غالبها وارثة بالنسب أو بالسلطة أو بالمال أو بها جميعاً، فينتهي الأمر بعودة الغالبية من الزعماء والأحزاب التي ورثت الإقطاع السياسي أو اقتحمت المسرح بالنفوذ والمال إلى المجلس الجديد - القديم». 

 

ثمة إجماع على تزايد أعداد المستنكفين عن الإدلاء بأصواتهم، لأنهم لا يجدون المرشح الذي يستحق أصواتهم، ومنهم الشابة الجامعية ليال (27 عاماً) التي اختصرت موقفها بالقول لـ«البيان»: «اليوم، سألازم بيتي، وأتفرج على اللعبة المُعادة والمكررة، بحيث إنها فقدت طرافتها، فضلاً عن احتمال أن تكون باباً للتغيير».

وهنا، تجدر الإشارة إلى أن ثمة نواباً في هذا النظام الديمقراطي استمروا في مقاعدهم نصف قرن أو يزيد، والبعض تجاوزوا نصف أعمارهم في النيابة ممثلين لناخبيهم، الذين لا بد أن يكون قد مات أكثر من ثلثهم، وربما نصفهم، مع ما يعنيه الأمر من كوْن التعويل على التغيير بات أشبه بـ«الخرافة البلقاء»، وبـ«صديق المستحيل»، وفق تعبير ليال، فـ«ما بُني على المحاصصة الطائفية لا يهدمه أي بديل».

 التغيير

«التغيير بات شعاراً يشبه الشعارات السياسية»، هذا ما يؤكده الصحافي جورج شاهين، موضحاً لـ«البيان» أن معظم اللوائح الانتخابية، التي تقود السِباق إلى مقر البرلمان، رفعت شعار التمييز والتجديد والمعارضة، إلا أن «القوى التغييرية والمعارِضة لم تتوحد حول لوائح متينة ومتعاونة»، الأمر الذي «سيصب في صالح أحزاب السلطة والأحزاب التقليدية». وما بين مضامين هذا المشهد، كلام عن أن انتخابات 2022 ستعيد جميع الوجوه إياها، وعن أن السلطة التي تنجو من ضربة كبيرة «تعود أقوى وأكثر وحشية».

 

قراءة هادئة.. وترقب

ومن وحي الشعارات والأجواء الانتخابية، أشار الكاتب والمحلل السياسي طوني فرنسيس لـ«البيان» إلى أن معنى التغيير في لبنان يختلف باختلاف القوى التي تتحدث عنه، فـ«التحالف الذي يقوده حزب الله، ويضم قوى 8 مارس، يريد تغييراً يضمن له سيطرة نهائية لمحور الممانعة والمقاومة، كما يقول، وهذا يعني إنهاء دور القوى الأخرى التي يتهمها بالولاء للخارج». ووفق رأيه، فإن هذا «ليس تغييراً، وإنما محاولة لتكريس أمر واقع نشأ بعد 8 مايو 2008، إثر اجتياح الحزب لبيروت، وما تلاه من فرض صيغة الدوحة في الحكم التي كرست مفاهيم جديدة تتعلق بالثلث المعطل وصيغة حكومات الوحدة الوطنية، التي تعني تحويل المجلس النيابي إلى حكومة مصغرة، وتضمن هيمنة الطرف الأقوى داخل السلطة»، مع ما يعنيه الأمر من كوْن التغيير في رؤية الطرف المذكور يعني الآن «ضمان أكثرية نيابية تكرس مكتسبات تحققت منذ الـ2008».

أما التغيير الذي يطمح إليه كثير من اللبنانيين، فهو تحديداً ضد هذه الرؤية من منطلقيْن: «الأول ضرورة استعادة حصرية سلطة الدولة وسيادة القانون وخضوع الجميع له بالتساوي، والثاني الرغبة بالإتيان بأشخاص موثوقين يتولون قيادة عملية الإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي ومكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين»، فيما البديهي أن الأمرين يُفترض أن يحصلا معاً، فـ«لا إصلاح مع استمرار تحالف الميليشيا والفساد، ولا دولة قانون بطبيعة الحال».

أما كيف يتحقق ذلك؟ فـ«بطريق واحد لا بديل عنه، وهو الانتخابات العامة»، يقول فرنسيس، مشدداً على ضرورة «الاقتراع لأشخاص إصلاحيين ليصبحوا نواباً»، وهذا هو «المدخل الإلزامي للتغيير، الذي يبدأ في خيارات مماثلة للمواقع الأخرى في الحكومة ورئاسات السلطتين التشريعية والتنفيذية، ما يتيح تبديلاً في قيادات الإدارات العامة خارج نفوذ مراكز القوى الطائفية والمذهبية، على أن يترافق كل ذلك مع إطلاق يد القضاء المستقل في عملية شاملة للتحقيق والمحاسبة».

وفي انتظار إسدال الستارة، اليوم، على موسم الانتخابات، فإن في المقلب الآخر من الصورة شعارات حافلة بوعود طموحة براقة، تعِد بالتغيير والإصلاح والمحاسبة وبمستقبل لا يتسع لرجال السلطة الحاليين. ويبقى السؤال معلقاً على مجريات الحدث اليوم: لمن سيعطي اللبنانيون أصواتهم؟ هل لنموذج الحكم والحياة الذي شهدته السنوات الماضية، أم لنموذج الدولة الحقيقية المنفتحة على العالم بأسره؟

Email