شباب لبنان... الحياة مؤجّلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

على أرض الوجع، وفيما اليأس يلون بالرمادي والأسود الأيام، ويجعلها أيام قهر، يكاد لا ينتهي أسبوع في لبنان على غير بدايته، من حيث كون البلد بات متروكاً للوقت، وهو الذي انضم، رسمياً، إلى قائمة الدول المصدرة للاجئين، لا سيما الشباب، الذي تتأجل حياتهم في بلدهم.

«كل من يرفض الهوان والفقر والفوضى سيقف على أبواب السفارات قريباً».. عبارة تقولها الشابة اللبنانية الجامعية ربى (21 عاماً)، مرفقة بالكثير من التحسر على بلد بات «بائساً إلى هذا الحد» و«لن يبقى فيه سوى هواة السلاح».

تنظر إلى البعيد، كمن تلملم أفكارها، وتختصر واقع الشباب اللبناني اليوم، حيث هم، من بوابة عناوين عدة، بدءاً من «الظلمة، والانهيار التام»، و«الاختناق وانقطاع النفس»، مروراً بـ«العتمة الشاملة»، فعلياً ومجازياً، ووصولاً إلى قناعتها بأن «البقاء في لبنان أشبه بالانتحار البطيء».

وبين مضامين كلام ربى بعض من فصول مأساة، تأبى إلا أن تعيدها وأمثالها إلى واقعهم، وهم العالقون في ما يشبه البئر المظلمة على مساحة وطن، عالقون في منتصفه، لا يعرفون الخروج منه، لكنهم بالتأكيد يعرفون أنه عند أحد مداخله حرب أهلية ونزاع وقتل ودمار وتهجير، أما عند المدخل الآخر، فمشاريع تسليم وتسويات قاتلة، فـ«إنْ سحبونا من أحد المخرجيْن، يفضحنا الضوء في الخارج، إذْ يعري مأساتنا»، هكذا يقول ربيع (27 عاماً)، خريج الجامعة اللبنانية في الهندسة المدنية، والعاطل عن العمل منذ أن «زلغطت» والدته في حفل تخرجه، قبل أن تغمض عينيها إلى الأبد على مشهد شهادة الامتياز التي لا تزال معلقة على الجدار، أما في المقلب الآخر من الصورة، فسلطة تراقب من فوق، ومن تحت، شباب هالكون في ظلمتهم، ينظرون إلى الضوء خائفين، مجرد مراقبة وإشراف على الحال، وليس من ينقذ ربى وربيع وغيرهما الكثيرين.

خشية من العراء

ومن الخصوصيات إلى العموميات، وبينما الانهيارات تتوالى تحت أقدام اللبنانيين، والآمال تتلاشى باتخاذ السلطة خطوات جدية باتجاه الإصلاح ووقف الانهيار، فإن في البلد عشرات آلاف الأطفال والشبان الذين لا يزالون عالقين في قعْر «جهنم»، بفعل الجهود الجبارة التي تبذلها السلطات اللبنانية لقطْع كل حِبال النجاة الممدودة لانتشالهم وإنقاذهم، فمنهم من قضى نحبه إما تفجيراً في 4 أغسطس 2020 أو جوعاً ومرضاً على مدار السنوات الأخيرة، ومنهم من لا يزال يصارع الحياة ويتحضر للقادم الأسوأ، وسط الخشية دوماً من العراء.

ذلك أن لا شيء في الحقيقة متطابق مع ما يبدو عليه في «بلد يعاني تعطلاً عميماً، وسلاحاً ذا سطوة، وفساداً عميقاً صار مضرب مثل عالمياً، فيما الشلل يتمدد من المياه والكهرباء إلى القضاء والأمن والحكومة»، يقول الباحث الاجتماعي والأستاذ الجامعي أنطوان ديب لـ«البيان»، فـ«بماذا تنفع الدماء الجديدة؟»، تاركاً سؤاله معلقاً من دون جواب أمام مشهد الانهيار الحاصل، الذي لم يعد طارئاً ولا مؤقتاً ولا منظوراً، بل هكذا ممتداً، وهو الحكاية الرازحة في سجل شباب، ارتضى بعضهم أن يكون تابعاً لزعيمه، فيستفيد من تلك المنظومة الحاكمة، إما عبر وساطة تؤمن له عملاً في إحدى المؤسسات الحكومية أو الخاصة، أو إنه قد يكون عاطلاً عن العمل بلا مستقبل أو واقع يليق به، إلا أن «الزعيم» بالنسبة إليه «خط أحمر».

أما الآخرون، ووفق الباحثة اللبنانية في علم النفس د. رولا سعد، فباتوا يتوزعون على فئتين: الشباب المنتفِض، رفضاً لسياسات السلطة اللبنانية، والشباب المغترب، والمنتشر في كافة دول الاغتراب: منهم من هرب من كافة الحروب، ومنهم من رحل عن هذا الوطن بحثاً عن حياة أو علم أو عمل أفضل.

وبرأيها، فإن المغترب هو «مقاوم» من نوع آخر، شخص رفض الذل في هذا البلد، استسلم للمقاومة الداخلية، فخرج ليقاوم السلطة من الخارج. وفي المحصلة، فإن الشباب اللبناني متحمس ومتعطش للتغيير، فـ«ماذا يكتب التاريخ للبنانيين؟» سننتظر ونرى»، تختم سعد كلامها.

أسئلة معلقة.. وأرقام

ومن بوابة الأسئلة المعلقة حتى إشعار آخر، إطلالة على الإحصائيات التي نشرتها منظمة «اليونيسف»، أخيراً، وأظهرت أن «3 من بين كل 10 شبان وشابات في لبنان توقفوا عن التعلم، ويعتقدون أن الحياة ستزداد سوءاً»، مفندةً في دراسة عن «واقع ومستقبل الشباب اللبناني» معطيات بالغة السلبية حيال «الصحة النفسية لجيل الشباب»، وذلك تحت وطأة اشتداد الأزمة الاقتصادية التي دفعت 13% من العائلات لترسل أطفالها، دون الـ18، إلى العمل، في حين بات يعد نحو 41% من الشباب اللبناني أن فرصة النجاة الوحيدة أمامهم هي «في البحث عن فرص في الخارج».

وفي دراستها، أشارت منظمة «اليونيسيف»، التابعة للأمم المتحدة، إلى أن الشباب في لبنان، ومع استمرار اشتداد الأزمة، يعانون في العثور على فسحة أمل، ما يضطرهم إلى تحمل مسؤوليات أكبر من أعمارهم وقدراتهم، وذلك لأسباب عدة، أبرزها: انهيار الليرة اللبنانية والارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار في السوق السوداء، وتفشي جائحة «كورونا»، والأعباء التي ترتبت عن «ثورة 17 أكتوبر» (2019)، والأضرار التي فتكت ببيروت وضواحيها بفعل انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس 2020)، لافتةً إلى أن كل ذلك «أثر على الصحة النفسية لجيل الشباب، وعلى إمكانية حصولهم على الفرص المرتجاة». ومن هنا، شهد القطاع التعليمي، وفق الدراسة أيضاً، تسرباً كبيراً، من أجل الانخراط في عمل غير رسمي، أو حتى متدني الأجر.

أما إذا لم يتوقف هذا التسرب التعليمي، فـ«ستكون هناك آثار اجتماعية خطيرة ونفسية فادحة في صفوف الشباب»، سيما وأن الإحصائيات أظهرت أن 3 من بين كل 10 شبان وشابات في لبنان توقفوا عن التعليم للبحث عن فرص عمل، فيما يشعر نحو 41% منهم أن فرصتهم الوحيدة هي بالبحث عن فرص عمل في الخارج.

في سجل المأساة

وبينما البلد يواصل «هبوطه الحر» إلى قعر الانهيار، «يتطاير» أبناؤه في موجة هجرة جماعية، هي الثالثة في تاريخه، كما أورد أخيراً تقرير مرصد الأزمة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وذلك على وقع ترجيح البنك الدولي استمرار تداعيات السقوط اللبناني في دوامة الانهيار على امتداد «عقدين من الزمن».

وعلى أرض الوجع، وفي بلد يواصل الانهيار، وكأن كل شيء معلق على الوقت، فيما كل ما يُطرح من معالجات ليس أكثر من «مهدئات»، فإن في المقلب الآخر من الصورة سلطة مستغرقة في حالة الانفصام عن واقع الناس، تواصل سياسة اللعب على حافة الهاوية.

وإلى أن تقضي الأوضاع أمراً كان مفعولاً أو مؤجلاً، فإن البلاد مطوقة بالانهيار، ولا تكاد تنطفئ أزمة حتى تشتعل أزمة أخرى، وبين كل هذه الفراغات، تغرق البلاد بين أمواج الميثاقية وهجرة الأدمغة، ليبقى الحكم في لبنان بلا دماغ.

وعليه، لم يعد ينافس لبنان في معدلات الهجرة، بحثاً عن فرص عمل، سوى دولتَي فنزويلا وزيمبابوي، ولم تعد مصادفة أن تقارن التقارير الدولية بين البلدان الثلاثة، وصولاً إلى إعلان لبنان دولة فائزة بقصب السبق!

 

Email