سوسة.. جوهرة الساحل التونسي

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

على مسافة 140 كلم إلى الجنوب من العاصمة تونس، توجد مدينة سوسة؛ التي تربط الجنوب والشمال، وتتصدّر جبهة وسط شرق البلاد كعنوان لعراقة التاريخ على الشاطئ المزدحم بصدى الملاحم والأساطير القديمة، وكأحد أهم المنتجعات السياحية على الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، حيث يزورها سنوياً ما لا يقلّ عن مليوني سائح، ليتمتعوا بجمال الجغرافيا وعبق التاريخ وسحر الطبيعة، وباعتدال الطقس، وجمال العناق السرمدي بين اندفاعات الموج وجاذبية الرمال.

وتُعرف سوسة باسم جوهرة الساحل التونسي، في إشارة إلى ما كان يسمى قديماً ساحل القيروان، وهو منطقة تمتد على طول نحو 170 كم بين مدينتي بوفيشة (شمال) والشابة (جنوباً)، وعرض 25 كم تقريباً بين سوسة وسيدي الهاني.

وأما القيروان فتوجد إلى الغرب منها بـ50 كلم، وتأسست في العام 670 م، وكانت أول عاصمة للعرب والمسلمين في أفريقيا، وصاحب الإشعاع الديني والحضاري والثقافي الكبير في حوض المتوسط وصولاً إلى ضفته الشمالية ونحو أعماق الصحراء الكبرى وما وراءها.

وسوسة مركز إحدى ولاية (محافظة) تونسية تأسست في 21 يونيو 1956 أي بعد ثلاثة أشهر من استقلال البلاد، لتكون بذلك عاصمة منطقة الساحل، بينما كانت بلديتها تأسست في 16 يوليو 1884 وهي تغطي مساحة المنطقة البلدية 32 هكتاراً، وتنقسم إلى خمس دوائر (خزامة، سيدي عبد الحميد، جوهرة، المدينة، الرياض)، ويبلغ عدد سكانها حوالي 250 ألف نسمة، وبها أكثر من 67 وحدة سياحية تضم أكثر من 25 ألف سرير، و63 مطعماً سياحياً، و15 مؤسسة ترفيهية و80 وكالة أسفار، وأشهر مرّكباتها السياحية مركّب القنطاوي الذي يحتوي على ميناء ترفيهي ومرسى لليخوت، وانبعثت نواته الأولى في العام 1979 في عهد الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة.

القلب النابض

وتعد المدينة القديمة، قلب سوسة النابض بعبق التاريخ، وهي مثال عن مدن القرون الأولى للإسلام في المغرب العربي. لذلك فهي تحتفظ بالقصبة وحصونها وأيضاً جامعها الكبير، وذلك إلى جانب رباطها وأخيراً مسجد بوفتاتة وهو معلم ديني وعسكري، وقد تم تصنيفها في 1988 بمناسبة الدورة 12 للجنة التراث العالمي كموقع تراث عالمي لمنظمة اليونسكو.

ولمن يريد الإطلاع على تاريخ سوسة، أن يزور متحفها الأثري الكائن بالقصبة في المدينة العتيقة، حيث تم تخصيص القاعة الكبرى المقبّاة الواقعة بمدخل المتحف، لتقديم لمحة عن تاريخ منطقة الساحل التونسي، وأبرز معالمها خلال الفترة المتراوحة بين العصور القديمة والعصر الإسلامي.

وتصل مساحة قاعات المتحف المقامة تحت أرضية الفناء الأكبر للقصبة حوالي ألفي متر مربّع، وتغمرها أضواء طبيعية واصطناعية تساهم في التأسيس لمناخات العرض، وتتكون مجموعة المتحف من لوحات الفسيفساء والمنحوتات والأثاث الجنائزي والتماثيل والمسلّات والنصب النذرية الحجرية، وقد تمّ عرض المجموعة الفسيفسائية العائدة إلى العصر الروماني إمّا منزّلة بأرضية القاعة أو على حوامل قائمة، وتعدّ هذه المجموعة من أضخم المجموعات في بلدان البحر الأبيض المتوسط، علماً أن تونس تمتلك أكبر مجموعة من لوحات الفسيفساء على صعيد العالم بأسره.

وخلال زيارته إلى سوسة، يجد الزائر نفسه أمام عدد كبير من المهرجانات، أهمها المهرجان الصيفي الدولي الذي يقام في النصف الثاني من يوليو والنصف الأول من أغسطس بمسرح الهواء الطلق، وكرنفال «أوسّو» أو إله البحر كما كان يعتقد الرومان، والذي كان معروفاً في المدينة منذ ألفي عام.

ومن استعراض سنوي كانت تنظمه سلطة الحماية الفرنسية لفائدة الجالية المسيحية تعبيراً عن الاحتفاء بموسم السباحة والصيف والمسمّى بـ«سنتا ماريا»، أصبح كرنفال «أوسّو» استعراضاً محلياً يستمد مضمونه من عادات وتقاليد الأسلاف خلال فترة الاصطياف بسوسة، وقد انطلق هذا الكرنفال برؤيته الحديثة في غمرة الاحتفالات بالاستقلال سنة 1958 وسمّي بـ«مهرجان أوسّو» لتزامنه مع عيد البحر.

وسوسة الحالية أسسها الفينيقيون في الألف الأولى قبل الميلاد (1101 ق.م) وأطلقوا عليها آنذاك اسم حضرموت، وهو ما يشير إلى تحالف بينهم وبين الحضارمة في مغامراتهم البحرية التي كانت تمتد نحو المحيط الأطلسي.

وبذلك، فإن سوسة سبقت من حيث التأسيس مدينة قرطاج (814 ق.م)، وعرفت بناء الكثير من الحصون والقلاع لتتحول إلى مركز تجاري مهم في تلك الفترة التي نقل فيها الفينيقيون مناطق نفوذهم التّجاري إلى الحوض الغربي من المتوسّط. فاستقرّوا في صقلية، و«أوتيكا» (المدينة العتيقة) في تونس اليوم، ومالطا، وصولاً إلى جنوبي سردينيا والجزيرة الإيبيرية وجزر الكناري التي دخلوها بعد عام واحد من تأسيسهم حضرموت.

واشتهرت مدينة سوسة بالغزل والنسيج، وبصناعة ثياب الكتّان، وخصوصاً بالعمائم السوسيّة والثّياب الرّفيعة البيضاء وتخصّصت فيها أسواق الرّبع السّلطانيّة. ويؤكدّ ذلك ما قاله البكري: «وكان زيادة اللهّْ بنى سورها». ولمّا تولّى الإمارة أحمد بن الأغلب أقبل على تعمير البلاد بالمحارس والحصون. ومن جملة أعماله أنّه جدّد سور سوسة وألحقها بالمدن وذلك في سنة 245هـ/‏‏‏‏859م، لا كما قال التجاني في سنة 863.

تجارة مزدهرة

ووصف الرحّالة دي فونتان الذي زار البلاد التونسية أواخر القرن الـ18 مدينة سوسة: «الأسواق نظيفة، ومقبيّة بطريقة جيّدة، والمساجد جميلة جدّاً، والنّاس كثيرون في الأزقّة حتّى أنّه يصعب التّجوال بها، ويتعامل السكّان بثقة كبيرة مع المسيحيين. وتصنع الكثير من المنسوجات التي تباع بمبالغ هامّة. ونجد بسوسة تجارة مزدهرة للصوف والفخّار والأحذية والقماش بحسب ذوق البلد».

وقال عنها إ. بليسييه في كتابه وصف إيالة تونس (1840-1841): «إنّ سوسة مسطّرة بطريقة جيّدة، وأنهجها عريضة جدّاً ومنازلها قليلة الارتفاع، ممّا يجعلها مضاءة ومهوّأة، وهو ما تتميّز به عن المدن في الشرق، ونجد بها مئذنتين أو ثلاث مآذن ذات بياض مشعّ تمتدّ من خلاله أشجار نخيل رخو وأنيق هنا وهناك فيضفي عليها جوّاً شاعريّاً».

تمثّل سوسة إلى اليوم، أحد أبرز عناصر التأثير السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي في تونس، وهي مركز مهم من مراكز صناعة القرار، إلى جانب أنها أهم مركز للجذب السياحي بالبلاد، سواء كمدينة حديثة بأتمّ معنى الكلمة، أو من خلال مركزها التاريخي العتيق الذي هو عبارة عن متحف مفتوح، بأسوارها ذات الحجارة الصفراء المقابلة للبحر وأسواقها العامرة وأزقتها ذات الطابع المتميز.

 

Email