ريبورتاج

سبسطية الأثرية.. تاريخ يمتد لآلاف السنين

ت + ت - الحجم الطبيعي

حصّنتها الطبيعة قبل أن تحصنها الأسوار، فرضت نفسها بموقعها وتضاريسها على حضارات رست سفنها وتركت بصماتها، وعلى تلة يصل ارتفاعها إلى 440 متراً، وعند التقاء طريقين رئيسين عرفا عبر التاريخ، أحدهما يربط شمال فلسطين التاريخية بجنوبها، والآخر يربط وادي الأردن بالبحر المتوسط، وجدت قبل 3000 عام، واليوم تقع في عمق الضفة الغربية، إلى الشمال الغربي من مدينة نابلس على بعد 15 كم منها، إنها قلعة سبسطية الأثرية.

 

 

 

عند التجول بين آثارها تتكشف ملامح التاريخ، الحكاية بدأت عام 876 قبل الميلاد عندما بناها الملك «عمري» وحصنها وجعلها عاصمة له وسماها «سماريا»، ومن بعدها تعاقبت عليها الحضارات، ابتداءً بالحضارة الكنعانية ثم العصر الحديدي فالآشورية والبابلية والفارسية، ثم الفترة الهيلنستية أو اليونانية وبعدها الفترة الرومانية ثم البيزنطية ثم دخلت الفترة الإسلامية مع فترة مستقطعة من الفترة الصليبية، وتركت كل حضارة بصماتها من خلال القصور والمدرجات.

المنسق الميداني ضمن مسار فلسطين التراثي زيد الأزهري رافق «البيان» خلال جولتها في منطقة الآثار، يقول: «إن أهم المناطق الموجودة في سبسطية منطقة قصر عمري الذي يعود إلى ما قبل 3000 عام، ومن هنا بدأت حكاية الحضارات التي تعاقبت على سبسطية، وذلك عندما بنى الملك عمري مدينة سبسطية، وحصنها بالأسوار واعتبرها عاصمة له وسماها سمارية وبعد حقبة عمري تعاقبت على سبسطية حضارات عدة، وكانت أولها الكنعانية، ثم العصر الحديدي، فالأشورية والبابلية والفارسية واليونانية، ومن بعد ذلك كانت الفترة الرومانية، ثم البيزنطية، لتدخل بعدها فترة العصر الإسلامي، إضافة إلى فترة مستقطعة من الحكم الصليبي».

مقام النبي يحيى

توجهنا إلى المسجد الكائن في وسط المدينة، المسمى بمقام النبي يحيى، تقول الحكاية إن هيرودوس أراد أن يتزوج زوجة أخيه، فاستشار النبي يحيى أو كما يعرفه المسيحيون بـ:«يوحنا المعمدان»، وهذا كان محرماً آنذاك، فأمر بحبس النبي يحيى في غرفة تحت الأرض، ولمنع وصول أي شخص إليه كان طعامه يصله من فتحة صغيرة.

في أحد جدران المقام 6 فتحات، هي لستة قبور، يقال إن النبي يحيى وزوجته وأتباعه مدفونون فيها، ويضيف الأزهري، أن وجود ضريح يوحنا المعمدان في سبسطية، أعطى البلدة قدسية لدى معتنقي الديانة المسيحية والإسلامية، فأقاموا فيها في الفترة البيزنطية عدة كنائس، عرف منها كنيستين في محيط الضريح والأخرى على السفح الجنوبي للبلدة، تم اكتشافها في العام 1932.

وجهة «البيان» التالية هي ساحة البازليكا التي يسميها أهالي سبسطية اليوم «ساحة البيدر»، وهي عبارة عن ساحة مبلّطة بالحجارة ومستطيلة الشكل تحتوي على صف من الأعمدة المنتصبة، وخط من القواعد في الجهة الغربيّة، وممرات مرصوفة بالفسيفساء، وفي هذه الساحة بنى الرومان أعمدة مدينتهم، لم يثبتوا أجزاءها بالكامل لأن ذلك كفيل بجعلها عرضة للسقوط عند أول زلزال قوي، لذلك صممت بوسط محدب وفوقه آخر مقعر بحيث تهتز ولا تسقط.

وعبر طريق ترابي ضيق وصلنا إلى المدرج الروماني، وهناك التقينا بخبير الآثار عبدالرحيم حمران، وقد بين لنا أن تاريخ بناء المدرج يعود للقرن الثاني للميلاد (حوالي 200 ميلادي)، عندما أسس المدينة الرومانية الإمبراطور سيبتموس سيفيروس، حيث يبلغ قطره الخارجي 65 متراً تقريباً، واستخدم سابقاً للمسرحيات التراجيدية والفكاهية، ويحوي 14 جزءاً من المقاعد، كل مجموعة منفصلة عن الأخرى، بينهم مدرج صاعد وهابط، ولا زال هُنالك جزء من منصة غير مكتشفة ضمن المدرج الروماني، وهي بِحاجة إلى اكتشاف، والمدرج يحتاج إلى إعادة ترميم، إلا أن غياب التمويل الكافي يعيق ذلك.

وإلى شرق هذا المدرج يشاهد الزائر البرج الهيلينستي من أهم آثار الفترة الهيلنستية في مدينة سبسطية، ويعود تاريخ بنائه إلى فترة الاسكندر المقدوني، ويبلغ قطره حوالي 13 متراً، أما ارتفاعه فيصل إلى 8.5 أمتار، وهو بحالة جيدة، فيه 19 مدماكاً مشيدة من حجارة متقنة القطع والتشذيب. تابعنا المسير باتجاه معبد أغسطس الكنز المدفون، والمعبد هو هدية الملك هيرودوس للامبراطور أغسطس الذي ولاه على سبسطية، ويحتوي المعبد على العديد من قطع الفخار، والتي اختلطت بقاياها بحجارة الأرض التي سرنا عليها قرب بقايا المعبد.

المقبرة الرومانية

تابعنا المسير إلى المقبرة الملكية الرومانية، إلى الجنوب من سبسطية اكتشفت مقبرة رومانية، وهي محفورة في الصخر ومزينة من الخارج بالبلاستر، ووجدت فيها الأواني الزجاجية والفخارية والأسرجة والمجوهرات.

أشار الأزهري إلى سقفها، الذي كان على شكل قبة حسب الدراسات، نظرنا إلى الأسفل فشاهدنا قبوراً مزينة بتماثيل، وهي خاصة بالطبقة الثانية من الحكام وهم الأثرياء وقادة الجيش، ويشير مظهر المقبرة الخارجي إلى عظمة العمارة في ذلك الفصل من التاريخ، ويدل على ذلك دقة صنع التماثيل المنقوشة على القبور والتي جسدت ملوكاً وحراساً وأسوداً وأطفالاً يحملون عناقيد عنب، وأسفل المقبرة يشير سرداب التهوية إلى وجود غرفتين فيهما مجمع قبور.

هذا ليس كل شيء في سبسطية، فعلينا أن لا ننسى شارع الأعمدة، يبدأ الشارع المعمد على امتداد 800 متر، من الجانب الغربي بعرض 12.5 متراً، يتناقص قليلاً كلما اتجهنا شرقاً، يقوم على جانبي الشارع حوالي 600 عامود حجر وطول الواحد منها مع التاج 5.5 أمتار، وقد حملت هذه الأعمدة تيجاناً كورنثية جميلة وسقفاً.

قصر الكايد

يتوسط مدينة سبسطية الأثرية، قصر الكايد يتجاوز عمره الـثلاثة قرون، تبلغ مساحته الكلية 272 متراً مربعاً، بالإضافة لساحات بمساحة 170 متراً مربعاً، كان مقر الحكم لقرى الكراسي في العهد العثماني، وقد تكونت من 30 قرية، وقد ظل القصر مهجوراً لـ 50 عاماً، وشبه آيل للسقوط ومقصداً للدواب، قبل أن يتم ترميمه في المرحلة الأولى عام 2007، والمرحلة الثانية كانت عام 2011. خالد تميم رئيس قسم الفعاليات والأنشطة في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، يوضح لـ «البيان» أن ما يميز قصر الكايد عن غيره، أنه فندق وبيت للضيافة في المدينة، وقد أخذ قصر الكايد الترتيب الثالث في بيت الضيافة على الضفة الغربية، والفندق يتيح المبيت ويوفر الخدمات للسياح المحليين والأجانب، وتعمل الوزارة وأهالي البلدة على تسويق القصر ودعمه من خلال الأفلام والصور ليصبح قبلة للسياحة.

مهرجان سبسطية

وفي ذات السياق يوضح تميم، أن مهرجان سبسطية للسياحة والتراث الثقافي يهدف إلى تسليط الضوء على هذا المعلم السياحي الضخم، واعتباره فرصة لدعم وتشجيع روّاد الصناعات التقليدية المتوارثة، وإلى دفع عجلة السياحة الداخلية وإحياء الموروث الثقافي، ويشهد المهرجان إقبالاً كبيراً من أهالي البلدة ومن جميع أنحاء فلسطين، بالإضافة إلى بعض الوفود الأجنبية.

ولفت تميم إلى أن منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، قد اعتمدت هذا العام سبسطية ضمن قائمة التراث العالمي، وأشار إلى الأهمية السياحية الكبيرة التي ستجنيها فلسطين من تسجيل سبسطية على لائحة مواقع التراث العالمية، خاصة خلال مرحلة ما بعد التعافي من جائحة كورونا وانتعاش القطاع السياحي الذي كان أكبر المتضررين خلال الفترة السابقة.

Email