هدوء المكان، وانسجام الأرض واستواؤها، تنحني رهبة أمام عظمة البحر الميت، وسلسلة جبال ملتوية يكتسي لونها بياضاً غريباً، امتزج بصفار لون الرمال، ليبدو المشهد للزائر كلوحة فنية طبيعية نادرة الوجود. إنها مدينة أريحا؛ أقدم مدن فلسطين الكنعانية، التي جمعت ملامح الإنسانية للتاريخ البشري منذ العصر الحجري؛ أي ما قبل 7 آلاف عام قبل الميلاد، وتقع أريحا على بعد 35 كم شمال شرق مدينة القدس، و7 كم غرب نهر الأردن، و15 كم شمال البحر الميت، وهي المكان الأكثر انخفاضاً عن سطح البحر في العالم، حيث يصل إلى قرابة 300 متر تحت سطح البحر، وتبلغ مساحتها 62 كلم مربع.
عرفت أريحا في العصر الكنعاني باسم مدينة القمر، فهي مدينة القمر العطرة نسبة لبساتينها وأزهارها، كما عرفت بحديقة السماء أو واحة النخيل، نسبة لعلو نخيلها وبهاء طلتها.
قال عنها الرحالة البغدادي في معجم البلدان: «أريحا بالفتح ثم الكسر وياء ساكنة والحاء المهملة أو بالحاء المعجمة، وهي مدينة الجبارين في الغور من أرض الأردن والشام، سميت بأريحا نسبة إلى أريحا بن مالك بن أرنخشد بن سام بن نوح عليه السلام، وهذا يدل على أن أصل التسمية سامي الأصل»، وذكرها وليام هاولز في كتابه «ما وراء التاريخ». إن أريحا العتيقة كان لها بالفعل كل خصائص المدينة الحقيقة، لذلك اعتبرت أقدم مدينة في التاريخ، ووصف بعض الرحالة مياهها العذبة بأنها أخف ماء، لنقاء مياهها وتربتها الجيدة التي تصلح لزراعة أنواع مختلفة من الفواكه والموز والحبوب.


منطقة مقدسة
يقول الباحث والمؤرخ تامر الزغاري لـ«البيان»: في الزمن الذي كان الإنسان يعيش فيه في الأكواخ أو الكهوف، كان سكان أريحا يعيشون في المنازل، فإذا نظرنا لأريحا حوالي سنة 8 آلاف قبل الميلاد، سنجد أن سكانها يسكنون في منازل دائرية كبيرة الحجم، وكانت تشبه مجمعاً لخلية نحل كبيرة، ومحاطة بسور هو الأقدم أيضاً في التاريخ، ليصبح شكل مدينة أريحا مثل القلعة المستديرة، وبعد أن انتشر الإنسان في أريحا وما حولها تحولت أريحا إلى منطقة مقدسة، حيث كشفت أعمال التنقيب عن بناء ذي أعمدة طوطمية يعود لحوالي عام 7800 قبل الميلاد، والأعمدة الطوطمية تدل على أن البناء كان مكاناً مقدساً أو مزاراً، وتشير الأبحاث إلى أن هذا البناء المقدس كان يحتوي بداخله على ضريح لنبي أو شخصية مقدسة كان يؤمن بها السكان في ذاك الزمان.
ولفت الزغاري إلى أن أريحا تعد المحطة الأولى التي توقف فيها الإنسان للبناء والتعمير والاستقرار لقربها من مصادر المياه المتمثلة بنهر الأردن، ووصلت المدينة إلى قمة تطورها في العصر الروماني في فترة حكم الملك هيرودوس العظيم الذي قام ببناء قصره الشتوي في موقع تلول أبو العلايق، ويعتبر هذا القصر من أفضل وأجمل الأبنية المرممة في الموقع، ولربما كان المركز الإداري لمدينة أريحا في ذلك الوقت، لقد بني القصر على جانبي الوادي للسماح لساكنيه بمشاهدة المياه المنسابة في الوادي في فصل الشتاء، وتعتبر المدينة من أكثر المدن الفلسطينية دفئاً في فصل الشتاء، فصارت مقصداً للزوار والسياح.


مقومات سياحية
تعد مدينة أريحا من أهم المدن التاريخية الفلسطينية الجاذبة للسياح، لامتلاكها مقومات سياحية عديدة جذابة، ومواقع أثرية، منها قصر هشام، إضافة إلى العديد من الأديرة، منها: دير حجلة، ودير وادي القلط، وتل عين السلطان، ومقام النبي موسى، وغيرها.
وعن قصر هشام بن عبدالملك يقول المؤرخ الزغاري: يعتبر قصر هشام الوجهة السياحية الأولى في المدينة، ويقع في منتصف منطقة صحراوية على بعد 5 كيلومترات إلى الشمال من مدينة أريحا، سمي القصر على اسم الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك، وشيد عام 743 ميلادي في نهاية عهده، وأكمل بناءه نجله الوليد، وكان قصراً شتوياً للخليفة الأموي بفعل اعتدال حرارة المنطقة، ويتكون القصر من مجموعة من البنايات والحمامات والجوامع وقاعات مليئة بالأعمدة الأثرية، وتعد الفسيفساء والزخارف والحلي من الأمثلة الرائعة للفن والعمارة الإسلامية القديمة، وحسب الخبراء فإن زلزالاً عنيفاً قد ضرب المنطقة ودمر الأبنية في قصر هشام قبل أن تكتمل، وبفعل الأتربة والأنقاض المتراكمة حفظت الفسيفساء والرسومات الرائعة الموجودة في القصر، ويحتوي القصر في قاعة الاستقبال على أكبر أرضية فسيفسائية عرفها التاريخ وتبلغ مساحتها 827 متراً مربعاً، رسمت من أحجار الفسيفساء الملونة بـ21 لوناً، وبحجم سنتيمتر واحد للحجر، أي ما يقارب 8 ملايين قطعة.
في السياق ذاته، تحدث إياد حمدان مدير عام وزارة السياحة والآثار الفلسطينية في منطقة أريحا والأغوار، عن لوحة فسيفسائية أخرى تلفت انتباه الزائر، في غرفة الديوان، يطلق عليها الخبراء اسم «شجرة الحياة»، وتجسد اللوحة شجرة برتقال على يسارها أسد يفترس غزالاً، وعلى يمينها غزالان يعيشان بسلام، وتلخص اللوحة الحياة في السلم والحرب.
وفي منتصف القصر، وضعت نجمة حجرية سداسية الشكل، كانت عبارة عن نافذة لإحدى غرف الطابق الثاني، ولكن بفعل تهدم القصر اختلطت الحجارة مع بعضها، وأعيد بناء النجمة خلال أعمال الترميم والحفريات التي تمت في ثلاثينيات القرن الماضي من قبل خبراء الآثار الفلسطينيين، يقول حمدان.

تحفة معمارية
تحتضن منطقة أريحا أقدم الأديرة وأغربها، وفقاً لتاريخها وموقعها ونمط عيش رهبانها، ومن أغرب تلك الأديرة «دير القرنطل» المحفور في بطن جبل قرنطل غرب أريحا، ويطلق على الجبل أيضاً اسم جبل «التجربة» وجبل «الأربعين»، في إشارة إلى المدة التي قضاها المسيح على الجبل، صائماً ومتعبداً.
وقال حمدان، خلال حديثه لـ«البيان»: إنّ الجبل يعدّ تحفة معمارية فريدة، حيث يضمّ ممرّات وغرفاً صخرية تتوسّط عمق الجبل، إضافة إلى الدير، الذي علق جزء منه بالهواء والجزء الآخر جرى نحته بداخل جوف الجبل، وقد اكتسب الدير مكانته الدينية لصلته بالمسيح، بحسب المعتقدات المسيحية، التي تشير إلى أنّ المسيح أقام في مغارة تحت الدير طيلة 40 يوماً صائماً.
ولفت إلى أنه في بداية التسعينيات كان الوصول إلى الدير كان يتطلب السير على الأقدام لمسافة تصل إلى ما يقارب 300 متر في طرق وعرة وشديدة الانحدار، أما حالياً، ومع وجود تلفريك السلطان، الذي أنشئ خلال عام 1998 لجذب السائحين، والذي يمتد على مسافة 1400 متر وبارتفاع 177متراً عن سطح البحر، فلا تتطلب مهمة الوصول إلى الدير سوى 5 دقائق فقط، ويتبقّى على الزائر صعود 150 درجة لبلوغ الدير والتجوّل داخله.

مقام موسى
أبواب حديدية عالية الارتفاع، قباب ومآذن مرتفعة، وسور ضخم يحيط بها، حيث ما يعتقد أنه مقام النبي موسى، عليه السلام، والذي يقع إلى الجنوب من أريحا بحوالي 10 كم، ويعتبر من أكبر المقامات التي تحويها فلسطين، فهو يحتوي على حوالي 120 غرفة موزعة على ثلاثة طوابق، في المقام يتنبه الزائر للبعد التاريخي وجمال العمارة الإسلامية عدا عن القدسية والنفحات الإيمانية التي تعم المكان.
ووفقاً للمؤرخ الزغاري فإن عمر هذا البناء حوالي 775 عاماً، ويوضح أن الموقع تم تأسيسه على يد القائد الظاهر بيبرس في العام 1269ميلادي، فبعد عودته من رحلة الحج جاء إلى هذه المنطقة، وعندما رأى أنها مليئة بالأديرة والمواقع المتعلقة بالفرنجة هدم أكثرها وأنشأ هذا البناء، ويؤكد أن تسميته لا تتصل بأي علاقة تاريخية بالنبي موسى، فالنبي موسى توفي ودفن في التيه في مصر، ولم يحضر إلى فلسطين.
ويضيف حمدان: «في عشرينيات القرن الماضي كان الناس يأتون إلى هذا المقام كل عام في شهر أبريل وتتنافس مختلف المدن الفلسطينية في العدد وفي الحجم وفي البيارق التي كانت تحملها، يجتمعون في مدينة القدس ومن ثم يكون الانطلاق إلى هذا المكان، وكانت تعمه الأهازيج والدبكات الشعبية، وكانوا يمزجون بين التراث الشعبي الفلسطيني وبين الأمر الديني».
ونوه حمدان إلى أن مدينة أريحا تضم أيضاً دير القلط، ودير حجلة، والحديقة الملكية، وطواحين السكر، وتل عين السلطان، والمغطس، وستبقى مدينة أريحا والأغوار المنطقة الأكثر استراتيجية، كونها سلة غذائية، وفيها البحر الميت ونهر الأردن.
