قيس سعيّد.. من أستاذ القانون إلى حامي الدستور

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في الخامس والعشرين من يوليو الماضي، اتخذ الرئيس التونسي قيس سعيّد إجراءات جذرية وحاسمة واستثنائية، حملت من المفاجآت ما فاق مفاجأة دخوله قصر قرطاج من دون أن يعبر جسراً حزبياً أو جهوياً، ومن دون أن يأتي على ظهر دبابة. قبل بضعة أيام، مدد قرار تعليق صلاحيات البرلمان ورفع الحصانة عن النواب، في حين يواصل قرارات الإقالة والتعيين في مؤسسات الدولة، بتصحيح المسار، الذي أنشأته حركة النهضة الإخوانية وائتلافاتها، وبموازاة كل ذلك يستمر فتح ملفات الفساد، ورفعها إلى الأجهزة القضائي

قادة «النهضة» لم يستطيعوا الاستمرار في الوصف الأولي الجاهز لقرارات الرئيس بـ«الانقلاب»، بل إنهم بدأوا سريعاً بالتراجع عن المواقف المتوترة، وراح بعضهم ينتقد زعيم الحركة رئيس البرلمان راشد الغنوشي ويطالبون بعزله، محمّلين إياه مسؤولية الأزمة في البلاد وفي الحركة أيضاً.

من هو هذا الرئيس، الذي ظهر في المشهد التونسي من دون خلفية صاخبة أو مشهدية سياسية أو حتى إعلامية؟

منذ البداية

قيس سعيّد بن المنصف بن محمد أبرز ما تنطق به سيرته هو مساره المهني وتكوينه الأكاديمي، باعتباره أستاذاً للقانون الدستوري، أما التونسيون الذين انتخبوه فإن صورته في أذهانهم بالنزاهة والاستقلالية عن الأحزاب، ونظافة يديه من الفساد.

دخل غمار الانتخابات الرئاسية مستقلاً، مسلّحاً بشعار «الشعب يريد»، وكان فوزه إنجازاً استثنائياً، إذ دخل غمار الانتخابات بتمويل ذاتي بسيط رافضاً المنحة المقدمة من الدولة للقيام بالحملة الانتخابية باعتباره مال الشعب، فيما استند في حملته إلى مجموعة من المتطوعين الشباب من حوله.

تمكن قيس سعيّد من الفوز في الدور الثاني من الانتخابات بحصوله على 72.71% من الأصوات، في مواجهة رجل الأعمال المتهم بالفساد، نبيل القروي، وحينها دعمت حركة النهضة سعيّد في مواجهة المرشح، الذي أصبح في ما بعد حليفها.

سعيّد الذي تسلّم مهامه رئيساً في 23 أكتوبر 2019، بدأت مؤشرات خلافه مع حركة النهضة في البروز إلى السطح، منذ أيامه الأولى في السلطة، وقد بدأت الحركة تدرك مع الوقت أن تأييدها لسعيّد في الانتخابات لا يعني أن يكون مطواعاً لها، أو صامتاً على سياساتها ومطامعها السلطوية، لذلك أخذت الخلافات مساراً تصادمياً في الأشهر الأخيرة، إذ تبدى بوضوح أن السلوك الذي انتهجته «النهضة» والحكومة الواقعة تأثيرها، أفضى إلى شلل في إدارة الدولة، ما تسبب في تعطيل دواليبها وانهيار النظام الصحي في ظل التفشي الكارثي لفيروس «كورونا»، فضلاً عن إزاحة ملفات الفساد إلى الزوايا المظلمة.

جذور ونشأة

وُلد سعيّد في 22 فبراير 1958 لعائلة من الطبقة الاجتماعية الوسطى، من أب موظّف وربة منزل. درس في الجامعة التونسية وتخرّج فيها، ليدرّس فيها لاحقاً القانون الدستوري، قبل أن يتقاعد من مهنة التدريس منذ سنة. حصل على دبلوم في سن الـ 28 عاماً من الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري في تونس، ثم باشر تدريس القانون في جامعة «سوسة»، وأشرف لفترة وجيزة على قسم القانون العام، لينتقل على أثرها ومنذ عام 1999 إلى حدود عام 2018 إلى جامعة العلوم القانونية والسياسية في تونس العاصمة.

حصل على شهادة الدراسات المعمقة في القانون الدولي العام من كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، وعلى شهادة الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري، وعلى شهادة المعهد الدولي للقانون الإنساني في «سان ريمو» الإيطالية.

من 1994 إلى 1999، كان مديراً لقسم القانون بكلية الحقوق والعلوم الاقتصادية والسياسية في سوسة، وفي 1999 انتقل للتدريس بكلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية في تونس العاصمة.

قبل ذلك، وبين عامي 1989 و1990، تقلّد سعيّد مهام مقرر اللجنتين الخاصتين لدى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، من أجل الإعداد لتعديل مشروع ميثاق الجامعة، ومشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية، ومن 1993 إلى 1995، عمل خبيراً متعاوناً مع المعهد العربي لحقوق الإنسان، وشغل خطة كاتب عام الجمعية التونسية للقانون الدستوري من 1990 إلى 1995، ثم أصبح نائباً لرئيس في 1995.

حمل سعيّد عضوية المجلس العلمي للأكاديمية الدولية للقانون الدستوري، وعضوية مجلس إدارتها منذ 1997، كما ترأس مركز تونس للقانون الدستوري من أجل الديمقراطية، الذي تأسس في 2011 للمساهمة في تجديد الفكر الدستوري حتى يواكب التحولات، التي حدثت في تونس وبلدان أخرى في العالم، وهو يحمل في رصيده عديد الأعمال العلمية في مجالات القانون والقانون الدستوري خاصة.

وللرئيس التونسي فتاتان وولد، وهو متزوّج من القاضية إشراف شبيل، التي ظهرت للمرّة الأولى برفقته خلال الأيام الأخيرة من حملته الانتخابية، وهي ابنة القاضي المعروف في تونس، محمد شبيل، ولهما من الأبناء عمرو وسارة ومنى.

ابن مهنته

يراه طلابه شخصية تكرّس حياتها لمهنتها، ويظهر في صورة الإنسان المستقيم والصارم، ونادراً ما يبتسم. ومن حقله المهني، أن قال عنه أحد طلابه في تغريدة على «تويتر»: «يمكن أن يمضي ساعات خارج حصص الدرس مع الطلبة لتوضيح بعض النقاط بخصوص امتحان». ووصفه أحد طلابه وصحافي تابع دروسه بين عامي 2011 و2012، بـ«الأستاذ الجديّ غالباً والمسرحي أحياناً، لكنه دائم الإصغاء لطلّابه».

يتذكّر صحافي من وكالة الصحافة الفرنسية أنه حين يدخل الكلية صباحاً، يبدأ سعيّد بإلقاء التحية على كل من يصادفه من زملائه، الذين يدرّسون معه وعمّال النظافة والموظفين في الإدارة والطلاب، ويسأل عن أحوالهم وأحوال عائلتهم فرداً فرداً.

كما ورد آنفاً، الرئيس سعيّد ليس حزبياً، وشبكة أنصاره تضمّ أساساً طلاباً متطوّعين، وشخصيات كان حضورها بارزاً خلال احتجاجات «القصبة 1» عام 2011، التي كانت منعطفاً في مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، إثر سقوط نظام زين العابدين بن علي.

قيس سعيّد الذي يدافع بشدّة عن لامركزية القرار السياسي وضرورة انتخاب مجالس جهوية، تعيّن ممثلين لها في السلطة المركزية، يُنظر إليه باعتباره رجلاً نظيفاً يقطن منزلاً في منطقة اجتماعية متوسطة، وأدار حملته الانتخابية من مكتب متواضع وسط العاصمة. ولفت الأنظار بقراره إحالة زوجته القاضية إلى إجازة من غير مرتب لخمس سنوات، وهي مدة ولايته الرئاسية، كما أنه توجه فور تسلّمه مهامه، إلى هيئة مكافحة الفساد وقدم بيانات بكل أملاكه.

من المعروف والملاحظ أنه يحرص على التحدث باللغة العربية الفصحى التي يتقنها، وانتبه مراقبون إلى أنه كتب بخط يده نص تكليف رئيس الحكومة السابقة بتشكيلها، وقيل عنه إنه خطّاط متمكّن.

خط دستوري

لكن الخط الذي انتهجه رئيس تونس في إدارة البلاد لم يرق لخصومه الذين اعتادوا على التفرّد والتغطية على الفساد، ما دفعه لأخذ زمام الأمور بنفسه من خلال إعفاء رئيس الحكومة وتجميد صلاحيات البرلمان مؤقتاً، في خطوة تصحيحية لمسار سياسي راكم الفشل طيلة عقد من حكومات «النهضة»، وجاءت قراراته على أنقاض انسداد سياسي داخل مؤسسات الحكم استمر أشهراً، بسبب سياسات البرلمان ورئيس الحكومة.

بعد إدراك قادة «النهضة» أن معركتهم الدستورية والإعلامية خاسرة، بدأوا ينادون بالحوار الوطني مع الاستعداد لتقديم «تنازلات»، لكن سعيّد كان يرى أن «التوافق السياسي» لم يثمر سلماً اجتماعياً وازدهاراً اقتصادياً. وقد عرفه التونسيون من خلال نقده اللاذع للطبقة السياسية خلال فترة صياغة الدستور، وقال ذات مرة إن الحوار الوطني «أكل الدستور» كما أكل الحمار «دستور الضيعة» في مسرحية «غربة»، على حد وصفه، في إشارة إلى مسرحية دريد لحام الشهيرة.

الرئيس التونسي يصر على أن قراراته دستورية، وأنه لن يتراجع عنها حتى في ظل ما كشف عن مخطط لاغتياله.

عياض بن عاشور، خبير القانون الدستوري والأستاذ السابق للرئيس سعيّد، قال في تصريح لصحيفة «لا كروا» الفرنسية «هو بالفعل محافظ جداً وليس إسلامياً، ولا يقدّم قناعاته الشخصية في خصوص المسائل ذات الأولوية»، لذلك كرر الرئيس سعيد أنه قراراته دستورية وأنها لن مس بالحريات والحقوق المدنية، وأكّد مراراً «أن لا رجوع عن المكتسبات في ما يتعلّق بالحريات».

Email