لبنان في زمن «الدولار الأسود».. يوميّات «مجبولة» بالقهر

ت + ت - الحجم الطبيعي

من بين ركام الأزمات وحطام المصائب التي تنهال فوق رؤوس اللبنانيّين، اضطرّت ربّة المنزل الخمسينيّة، سعاد، أن تعيد بناء موقد الحطب في بلدتها الجنوبيّة، لتحضير الطعام والخبز لأفراد عائلتها، والذين يعيدون معها كلّ يوم صوْغ الأفكار من جديد، معطوفةً على حساباتهم التي ترجّح فيها كفّة «ما عليهم»، على «ما لهم» المعدومة، وذلك وفق النقاش نفسه: الحياة ليست طعاماً وشراباً فقط، وليست محروقات أو «غالون» زيت للقلي في «السوق السوداء»، وليست «كهربا دولة» أو «كهربا اشتراك»، إنّما نظام متكامل بات مفقوداً.

وفي بلدتها البقاعيّة، تنشغل أم علاء، الستينيّة، وربّة أسرة معدومة الحال، ومؤلّفة من 8 أفراد، بإعداد الخبز على التنّور، الذي بنته أخيراً، علّ ما تجنيه من آلاف الليرات المعدودة، يقيها وعائلاتها ذلّ العوْز ومرارات الحياة التي لا تنتهي.

هكذا، وبعدما لم تجد من يلتفت إليها وإلى عائلتها، اختارت أم علاء إشهار مذهبها في وجه من يعنيهم الأمر: «ضحيّة الرغيف».. وبـ «رغيف التنّور»، قرّرت أن تغالب أوجاعها، وتصْرع القهر الذي خرج من قيده، بعدما أتعبتها الحياة، وتركت للأيام أن تتابع مسيرتها على وجهها: تجاعيد عميقة، وحزناً أصيلاً في عينيها لا يدرك سرّه أحد.

وتكرّ سبّحة المشاهد، لتستقرّ على حقيقة واحدة، مفادها أنّ اللبنانيّين المتروكين لمصيرهم، على اختلاف مناطقهم ومذاهبهم وانتماءاتهم السياسيّة، ومن دون سابق إنذار، وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام استعادة نمط الحياة القديم، للنجاة من الظروف البائسة، والذي يبدأ بـ «رغيف تنّور»، ولا ينتهي بتقطيع بصلة وحبّة بندورة، إلى جانب القليل من البرغل.

وذلك، في زمن تخزين المأكولات من دون تبريد، وفي زمن يشهد تركيب جدول أسعار كلّ شيء في حياتهم، وفق «دولار أسود»، على مرأى ومسمع «سلطة لا ترى ولا تسمع ولا تفعل»، وفق توصيف أحدهم لـ «البيان».

ومن وحي هذا الواقع، المثقل بالأزمات «المقيمة»، وبغياب النوايا الحقيقيّة للحلّ، وعلى مسارين موازيين، تسير فصول الكارثة المتسارعة نحو انهيار ما تبقّى من معالم صمود اللبنانيّين أمام أعتى ظروف حياتيّة واقتصاديّة واجتماعيّة مرت في تاريخ لبنان: المازوت والبنزين أبرز عنوان، الطوابير المصطفّة تحمل الشكّ، بل اليقين، بأنّ ثمّة من لا يريد للأزمة أن تستريح، ولو مؤقتاً، وعلى توقيتها المفروض من شركات الاحتكار، التهب سعر الرغيف، وبدأت ربطة الخبر «تنشد القربى»، لصفيحتَي المازوت والبنزين، حتى وصل سعرها إلى أربعة آلاف ليرة لبنانيّة، في سابقة جديدة.

وبالتالي، ما على اللبنانيّين سوى السعي الدائم للحصول على لقمة الخبز، وحبّة الدواء وسرير استشفاء، وومضات الكهرباء، بشقّيْها الرسمي والخاص، وتأمين بدل النقل، الذي «فلتت» تعرفته على نحو لا يقوى عليه جيْب الفقير، وبديهيّات العيش بكرامة، في زمن استبدلوا فيه قصّتهم مع «إبريق الزيْت»، بقصّتهم مع «صفيحة البنزين»، وثبّتوها رقماً صعباً في طابور أزماتهم اليوميّة، والذي يبدو أنّه باقٍ، ويتمدّد بفعْل فاعل، فيما لسان حالهم يردّد دوماً: هل يصبح رغيف الفقير في مصاف «الكافيار» و«السيغار»؟!

Email