من أهوال الحرب السورية.. مدن تحتاج إلى معجزة

«غوطة دمشق» رئة العاصمة تعاني صعوبة في التنفّس

ت + ت - الحجم الطبيعي

ليس صدفة أن يقول الشاعر الفلسطيني عبدالكريم الكرمي في غزل الغوطة «ولي في غوطتيك هوى قديم/ تغلغل في أمانيّ العذاب».

هذه الجهة الشرقية من مدينة دمشق التي طالما كانت الرئة التي يتنفس منها الدمشقيون، بمزارعها الخضراء وأجوائها الباردة بينما تتلظى دمشق بحرارة الصيف. أما المياه التي تحتويها الغوطة فهي جزء من ينابيع دمشق وامتداد لمياه بردى. وورد في كتاب «عجائب البلدان» للمؤلف أحمد زناتي، أن تسمية الغوطة تعني «الكرة» أي المدورة التي قصبتها دمشق وهي كثيرة المياه نضرة الأشجار متجاوبة الأطيار مونقة الأزهار ملتفة الأغصان خضرة الجنان.

أما محيط هذه المنطقة الغناء والخضراء يبلغ حوالي ثمانية عشر ميلاً كلها بساتين وقصور تحيط بها جبال عالية من جميع جهاتها ومياهها خارجة من تلك الجبال وتمتد في الغوطة أنهار عدة.

وفي تعريف الغوطة في معجم المعاني الجامع، هي أحد منتزهات الدنيا السبعة فيها الكثير من الرياض والفاكهة والرياحين. قيل فيها الكثير لجمالها وروعة أرضها المنخفضة التي يُزرع فيها كل أنواع الفواكه. أما الآن فنحن أمام غوطة جديدة، بسبب رحى الحرب التي دارت على هذه الجنّة الأرضية.

من سوء حظ هذه الأرض أنها كانت على خط النار بين دمشق وأطرافها، ومرتعاً للمسلحين ودارت على أرضها أعنف المعارك خلال سنوات الحرب حتى العام 2018 حين غادر المسلحون المدينة لتلتقط المدينة أنفاسها وتواصل مداواة جراحها العميقة. وبعيداً عن جمال وروعة هذه المدينة التي كانت مرتعاً للدمشقيين في أواخر الأسبوع إلا أن الغوطة بما جرى فيها من دمار انعكس على العاصمة دمشق التي كانت تعتمد اعتماداً كلياً على خاصرتها (الغوطة)، اقتصادياً، حيث معظم المعامل التي تغذي دمشق بعد مدينة حلب تتمركز في الغوطة، ويمكن القول إن كل المعامل للمواد الغذائية كانت في الغوطة، حيث كانت الشريان الوحيد للعاصمة دمشق الصغيرة، وقد بدا الارتباط بين دمشق والغوطة وثيقاً عندما تم تدمير الغوطة بسبب وجود المسلحين وسيطرتهم على الأرض، لتعيش دمشق اليوم أسوأ أيامها بفقدانها الرئة النظيفة.



مدن أشباح

في مارس العام 2018 صُدم السوريون بحجم الدمار الذي حل بهذه الأرض الجميلة، التي غيّبها المسلحون عن الأنظار سبعة أعوام، كانت الصدمة كبيرة على كل من يعرف الغوطة، حيث حفرت جماعات متشددة المدينة وأنشأت مدينة تحت الأرض وأنفاقاً تتسع لدخول شاحنات كبيرة، حيث ظلت هذه الأنفاق وسائل تخريبية للجماعات المسلّحة وأبواباً للتجارة غير الشرعية.

وجد أهالي الغوطة أن مدينتهم انتهت بفعل الحرب الطويلة وسيطرة المسلحين الذين انفردوا بالتخريب وحفر الأنفاق، فلم تعد الآلاف من المباني والأراضي قابلة للعيش أو الحياة.. أما المسلحون الذي عاثوا بهذه الأرض غادروا إلى الشمال السوري ليتركوا جنة الأرض جحيماً على أهاليها.

أنهت الحرب الدائرة على أرض الغوطة كل مقومات الحياة والصناعة والزراعة وتحولت المدينة إلى أراضٍ غير صالحة للزراعة، فيما تم تدمير كل المصانع ونهب ما تبقى منها على غرار ما جرى في حلب.

كانت هذه المصانع والأراضي الزراعية خزاناً استراتيجياً للعاصمة دمشق طوال العقود الماضية، وبعد أن انتهى هذا الخزان عانت العاصمة دمشق من نقص كل شيء من مقومات الحياة بما في ذلك المياه، ناهيك عن هجرة شباب الغوطة التي تعتبر من المدن الحيوية والمليئة بالقوى العاملة، إذ بدت المدينة اليوم ملاذاً لمن تركوا المخيمات وهموا بالعودة إلى ديارهم رغم كل هذا الدمار.



الهجرة خارج أحلام أبو ممدوح

لم يتمكن أبو ممدوح الرجل الطاعن في السن، من الهجرة خارج الغوطة مع التسويات التي جرت بين الحكومة السورية والمسلحين شتاء العام 2018. وعلى الرغم من مغادرة أبنائه المسلّحين المدينة، إلا أنه فضل البقاء في بساتينه التي حرم منها على مدار سبع سنوات بسبب تحويلها إلى مقرات عسكرية من قبل المسلحين.

مازال أبو ممدوح من بلدة حمورية آخر أطراف الغوطة يستذكر أيام الزراعة والبساتين التي تحولت إلى صحراء، ويؤكد أنه لن يغادر منزله حتى آخر حياته، حيث يريد أن تنتهي حياته إلى جانب ما تبقى من الأشجار. إنه واحد من آلاف المسنين الذين فقدوا كل شيء في هذه الحرب. فقد مزارع خضراء وتحوّلت بعض المعامل الصغيرة التي يملكها في السابق إلى مستودعات للأسلحة، وهو الآن غير قادر على إعادة العمل في مزرعته أو معامله الصغيرة بسبب ارتفاع تكلفة إعادة إعمارها.

أما الحكومة السورية التي أحوج ما تكون إلى إعادة إحياء الغوطة، فهي أيضاً عاجزة عن العمل في مدينة جرى تدمير أكثر من 80% منها وتخريب أراضيها وقواعدها الخدمية، على الرغم من الحاجة الماسة إلى مثل هذه الواحة الزراعية والصناعية في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.



هل يستطيع أبو رمزي رؤية منزله مدمّراً؟


أبو رمزي، الذي هجر الغوطة في أوج الحرب في الغوطة العام 2013، مازال يعجز عن رؤية منزله المدمر، وحتى الآن يرفض زيارة بيته في الغوطة بسبب الخوف من الصدمة، فقد أمضى ستة عقود في الغوطة من دون أن يفارقها إلا بعد بداية الحرب، ويقول أريد أن أحتفظ بالماضي دون أن يتشوه برؤية ما جرى في بيتي وفي مزرعتي.

على الرغم من مرور ثلاثة أعوام ونصف العام على نهاية الصراع في الغوطة الشرقية، إلا أن الحياة لا تزال معطلة في هذه المدينة، فقد انتهت تماماً البنية التحتية للمدينة، وتحولت إلى خراب كامل وشامل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الكهرباء، ونتيجة ذلك ازداد الضغط على العاصمة دمشق التي تأثرت مباشرة بما جرى في الغوطة.

أما عائشة مارديني التي تقطن في بلدة سقبا ذات المصانع العالمية في الموبيليا الحاصلة على شهادة «غينيس» في صناعة الموبيليا مازالت تتأمل إعادة الإعمار، وهي حقا تتابع الأخبار بشكل يومي على أمل بدء مشروع إعادة إعمار سوريا.

خسرت الغوطة الشرقية واحاتها ومصانعها وشبابها، ولكن الخسارة لم تتوقف هنا، فدمشق أيضاً خسرت الخاصرة الجميلة والصناعية إلى أجل غير مسمى وهي لاتزال تئن بسبب ما جرى في الغوطة.

 

 





 

 

دمار كبير وخسائر فادحة

تشير الأرقام الصادرة عن منظمات الأمم المتحدة إلى خسائر فادحة رغم أنها بعيدة عن الواقع بسبب صعوبة إحصاء كل الدمار الذي حل بالغوطة الشرقية.

وبحسب معهد الأمم المتحدة للبحث والتدريب (UNITAR)، فقد بلغ عدد المباني المدمرة كلياً في الغوطة الشرقية 9353 مبنى، بالإضافة إلى 13661 مبنى مدمراً بشكل بالغ، و11122 مدمراً بشكل جزئي، فيما بلغ مجموع المباني المتضررة 34136.

أما منطقة مخيم اليرموك والحجر الأسود، جنوبي دمشق، ففيها 2109 مبانٍ مدمرة كلياً، و1765 مبنى مدمراً بشكل بالغ، و1615 بشكل جزئي، ليكون مجموع المباني المتضررة 5489.

وفي مدينة الزبداني في ريف دمشق يوجد 659 مبنى مدمراً كلياً، و1251 مدمراً بشكل بالغ، و1454 بشكل جزئي، وبلغ مجموع المباني المتضررة 3364.

إلا أن مراكز محلية ومنظمات داخلية في الغوطة، تؤكد أن حجم الدمار يفوق أرقام الأمم المتحدة، التي عجزت عن تقييم ما جرى في الغوطة، خصوصاً المناطق المتضررة من حفر الأنفاق وإنشاء مدن تحت الأرض، الأمر الذي أضر بالآلاف من المدنيين وتعرضت منازلهم للهدم، فضلاً عما جرى خلال سنوات الحرب.

Email