مهد الحضارات وأرض التاريخ.. اليمن السعيد.. طابعٌ معماري فريد يزيّن مختلف مدنه، فيما تقف صنعاء القديمة التي يزيد عمرها على 2500 عام، شاهداً على العراقة، لم ينل منها الاضطراب السياسي ولم يسلبها طابعها الاستثنائي وأسواقها الشعبية التي لا تزال تعرض مختلف أنواع الحبوب والملابس التقليدية وتشكيلات الفضة وأحجار العقيق النادرة. تقف المباني التي بُنيت منذ مئات السنين ولا يزال يقطنها الناس، والأسواق الرائجة التي تعرض مختلف المنتجات منذ عقود طويلة، شواهد على عبق القِدم وإرث الأجداد.

ومنذ إدراج صنعاء القديمة مطلع ثمانينيات القرن الماضي في قائمة «يونسكو»، حظيت المدينة التي تحوّلت إلى شبه جزيرة يحيطها التوسّع العمراني من كل اتجاه، باهتمام ورعاية محلية ودولية، إذ تمّت إعادة ترميم مبانيها ورصف شوارعها، فيما صدر قانون يمنع أي استحداث في البناء، ويوجّه بترميم العمارات والبيوت بالمواد نفسها التي بنيت منها، بما يحافظ على طابعها المعماري القديم. 

بلغت صنعاء القديمة ذروة مجدها في عقد التسعينيات، إذ كانت مقصد مئات الآلاف من السياح الأجانب والزائرين المحليين. تمت إعادة إحياء مختلف المهن الحرفية، وزاد من جمالها تشييد الممر المائي الضخم المعروف باسم السائلة، والذي تحوّلت ضفافه إلى مسرح ومتنزهات للسكان والزوار معاً.

 

 

طالما طوّق المدينة التي تحتل قلب العاصمة اليمنية، سور قديم من مختلف اتجاهاتها وأبواب لدخول القادمين، إلّا أنّ جزءاً كبيراً من السور تهدم منذ ستينيات القرن، ولم يتبقَ منه سوى الجزء الجنوبي الذي يضم بابها الشهير والمعروف باسم باب اليمن. بُنيت صنعاء في وادٍ جبلي يرتفع إلى 2200 متر، وتحوّلت في القرنين السابع والثامن إلى مركز مهم لنشر الإسلام، فيما حافظت على تراث ديني وسياحي يتجلى في 106 مساجد و21 حماماً و6500 منزل يعود بنائها إلى ما قبل القرن الحادي عشر، وفق تقديرات مركز التراث العالمي.

وقبل تنامي أنشطة التنظيمات المتطرّفة أواخر تسعينيات القرن الماضي، كانت المدينة مقصد أكثر من مليون سائح أجنبي سنوياً، لكن أدت حوادث الاختطاف التي طالت عدداً من السياح لتوقف أفواج السياح بشكل كامل منذ ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، الأمر الذي أثّر وبشكل كبير في الصناعات الحرفية التي ازدهرت بفعل إقبال السياح والسكان على شرائها، وساعد على ذلك الدعم الذي تلقته معامل تشكيل الفضة والأحجار الكريمة والحلي والملبوسات التقليدية التي كان الزوار يحرصون على اقتنائها.

ليس اليوم كما الأمس، فقد رُزئت المدينة بسيطرة ميليشيا الحوثي وتلطيخ جدرانها ومدخلها الرئيس بشعارات الميليشيا وصور قتلاها، فيما أفقدها تآمر الميليشيا مع أصحاب الأموال ممن يشترون المنازل القديمة ويهدمونها لإعادة بناء مكانها مبانٍ أسمنتية حديثة، جزءاً كبيراً من معالمها، بما يهدّد بإخراجها من قائمة التراث الإنساني. وتسبّب تقاعس ميليشيا الحوثي في تهدم عشرات المنازل جراء الأمطار الغزيرة التي هطلت العام الماضي، قبل تدخّل منظمة «يونسيف» وبدعم من الاتحاد الأوروبي لتمويل إعادة بناء وتأهيل عشرات المساكن وفقاً للطراز المعماري السائد.

أسواق

وما إن تطأ قدماك «باب اليمن» حتى تشعر بأنك تتنقّل بين مراحل تاريخية متعددة عاشتها المدينة وتركت بصماتها فيها حاضرة، إذ لا تزال آثار المعبد الذي بناه أبرهة الحبشي قبل الإسلام والمعروف باسم القليس، موجوداً في

قلب المدينة، حيث سور الموقع الذي يطلق عليه السكان «غرقة القليس»، كما ستجد نفسك أمام أسواق متعددة وأشهرها سوق الملح وهو السوق الذي تعرض فيه مختلف أنواع الحبوب والبهارات والأعشاب، إذ ما يزال الباعة يعرضون ما لديهم بالطريقة القديمة نفسها. تتوزع المدينة على عدة أسواق ومنها سوق الزبيب وسوق الحدادين وسوق العرج وسوق الفضة، كما تتميز بالسماسر، وهي خانات كانت تستخدم كفنادق لإيواء المسافرين، ولكنها أصبحت اليوم تؤدي وظائف أخرى، إذ أصبحت سمسرة النحاس القريبة من المدخل الرئيس، معامل لتشكيل الفضة والعقيق وصناعة الخواتم والحلي. وتحولت سمسرة وردة إلى مطعم يقدم المأكولات الشعبية الشهيرة، وسمسرة المنصور التي تتميز بالزخارف إلى مركز للفنون التشكيلية. وتعد هذه السمسرة المكونة من خمسة طوابق من سماسر الإيواء الكبيرة في صنعاء.

إعادة ترميم

قرّر المؤتمر العام لـ«يونسكو» بدورته المنعقدة في بلغراد في عام 1980، إطلاق حملة دولية لصيانة صنعاء القديمة، وإعادة المباني الرئيسة فيها، وتم ترميم أجزاء من السور المحيط بالمدينة الذي تعرض للانهيار، وترميم عدد من المنازل الآيلة للسقوط، وترميم المدخل الرئيس المعروف باسم باب اليمن كاملاً، واستكمال عمليات الصرف الصحي وغيرها.

ومع أنّ تخطيط المدينة يقوم على نظام الحارات وشوارعها ضيقة والمباني العالية تبدو من بعد متلاصقة، إلّا أنّ الأزقة تخترقها بطريقة منظمة، بحيث يكون في كل حارة مسجد وأمامه مزرعة صغيرة تسمى «مقشامة» تمد سكان الحارة بما يحتاجون من خضراوات وفاكهة.

أبواب مدينة

تمتلك المدينة أربعة أبواب رئيسة تُفتح فجراً وتغلق مساء وأهمها باب اليمن أجمل أبوابها وأكثرها عرضاً وترتيباً، وهو الوحيد الذي لم يتعرض للهدم والتخريب على غرار الأبواب الأخرى، حيث أصبح باب شعوب أثراً بعد عين، فيما يؤدي باب ستران إلى الجهة الشرقية باتجاه القلعة الشهيرة المعروفة بقصر غمدان، وباب السبح الذي ينفذ إلى الجهة الغربية وحي بئر العزب، بينما الأبواب الأخرى غير الرئيسة باب خزيمة، وباب الشقاديف، وباب البلقة، وباب الروم.

تبدو صنعاء كأنها كائن عضوي ينمو ويمتد في الاتجاهين الأفقي والرأسي بطراز معمارها القديم الذي يمتلك زخارف غنية توجد بأشكال ونسب مختلفة مثل كتل النوب والأسوار والمساجد والسماسر والحمامات والأسواق والمعاصر والمدارس التي تجعل منها مدينة حية تلبي المتطلبات الأساسية للإنسان، وتشكل تراثاً معمارياً خالداً يحكي قصة تاريخها الذي لم ينحنِ أمام التيارات المعمارية الحديثة.