بيت لحم.. مدينة التسامح ومرآة الإرث الحضاري

ت + ت - الحجم الطبيعي

في ساحة السلام بمدينة بيت لحم التاريخية الفلسطينية، يمكن لك أن تسمع نداء المؤذن من مسجد عمر، وعلى مقربة منه تُدق الأجراس في كنيسة المهد، ترى الصلاة والدعاء، وعناق الهلال مع الصليب، وتنصت إلى مقطع من أغنية زهرة المدائن «الطفل في المغارة وأمّه مريم وجهان يبكيان»..

وكأن صوت الصرخة يريد أن يتكرر، ليعيد للمدينة التي شهدت ميلاد السيد المسيح عليه السلام، نقاءها وسلامها وصفاء ملامحها.

تعج بيت لحم بالآثار التاريخية القديمة، ككنيسة المهد، مغارة الحليب، برك سليمان، وكنيسة القديسة كاترينا، إلا أن الشيء الأكثر وضوحاً في تقاليدها، والأكثر إثارة للتأمل، هذا التآخي والتسامح والتعايش والوئام بين المسلمين والمسيحيين.

وفيما تتعانق كنيسة المهد التي يُعتقد بأن السيد المسيح ولد فيها، مع مسجد عمر، الذي أقيم في مكان صلى فيه الخليفة عمر بن الخطاب، لدى فتح بيت المقدس، يجسّد أبناء المدينة، ما ورثوه من ممارسات عبر التاريخ، كإهداء المسيحيين إخوانهم المسلمين، زيت الزيتون، لإضاءة قناديل مسجد عمر، ومشاركة المسلمين الاحتفالات بالأعياد المجيدة في ساحة المهد، وإفطار الصائمين على موائد المسيحيين في شهر رمضان، وغيرها من المناسبات الدينية، التي يجدون فيها فرصتهم للتأكيد على أواصر المحبة والتسامح.

ملامح المحبة

ومما يُروى أن المسيحيات في بيت لحم، كنّ يقدمن النذور أمام مسجد عمر، فتنذر الواحدة منهن بتقديم «السماط» وهو عبارة عن قُدور كبيرة يستعملنها في إعداد الطعام لمن يريد من المارّة ومرتادي مسجد عمر وكنيسة المهد، علاوة على مشاركة المطارنة ورجال الدين المسيحي في الفرش السنوي لمسجد عمر، والسماح للمسيحيين بزيارة المسجد التاريخي، والإطلاع على معالمه، الأمر الذي ينطبق على المسلمين، لدى زيارتهم كنيسة المهد.

ولا يوجد في بيت لحم، أحياء وحارات للمسلمين وأخرى للمسيحيين، إذ يسكنون جنباً إلى جنب، في نموذج مميز للتآخي الديني، ما أعطى لهذه المدينة رمزية تاريخية عميقة. ويُجمع ساكنو المدينة على أن علاقة الألفة والمحبة بينهم تعود لأيام العهدة العمرية، التي نظمت العلاقة التاريخية بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين، لدرجة أصبحت نموذجاً إيجابياً للحوار بين الأديان.

ومنذ ولد السيد المسيح عليه السلام في بيت لحم، أصبحت المدينة واحدة من أهم المدن الفلسطينية والعربية المفتوحة على العالم، ومنذ أن رفعت شعار (بيت لحم 2000) مطلع الألفية الجديدة، رسمت المدينة مستقبلها الواعد، فغدت قبلة للحجيج المسيحيين من شتى أرجاء العالم، تفرد ذراعيها لاستقبال مليون سائح سنوياً.

عاصمة للثقافة

في الأيام الأخيرة، وعلى الرغم من جائحة كورونا، انطلقت في مدينة المحبة والسلام، فعاليات (بيت لحم عاصمة للثقافة العربية) التي تحمل في طياتها أوجهاً تاريخية عن المدينة، النابضة بالتعاون والتسامح، وهذه الفعاليات ستستمر على مدار العام، وستمتد لتشمل كل المدن الفلسطينية، إضافة إلى بعض العواصم العربية والإسلامية.

ويأتي اختيار بيت لحم، كتعبير حي عن العطاء العابق بالتاريخ، علاوة على التأريخ لأهم المحطات التي مرّت بها، والتي أذهلت العالم بكنوزها التاريخية النفيسة، ودورها الريادي في الحفاظ على الإرث الحضاري، ما جعلها قبلة سياحية للعالم.

Email