برْج المرّ في بيروت.. حكاية ممهورة برصاص القنّاصة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

عملاقٌ حجريٌّ شبه متداعٍ، بطوابقه الـ34 ونوافذه الـ510.. «برج المرّ»، أو ما اصطلِح على تسميته «البرج الشاحب»، في وسط بيروت، بموقعه الذي يوصل قلب المدينة بأطرافها كافة، شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً، وبإطلالته على مقرّ الرئاسة الثالثة.. وفي الأسماء تكمن حكاية برج عمره من عمر الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975- 1990)، والتي هي برمزيتها كانت بين أضلعه، فتركت بصماتها الواضحة عليه، وجعلت منه شاهداً وتذكاراً، أي مكاناً للحفاظ على الذاكرة: ذاكرة المدينة بحلوها ومرّها.. أمّا تفاصيله، فتبدو وكأنّها تعانق زمن الحرب، ولا تزال تنتظر الخروج إلى الحياة مجدّداً: بناء عتيق، وجزء أساس من الماضي الذي لم يتبرّج، ومعْلم جغرافيّ للمارّين وسائقي السيارات.

ينتصب في إحدى زوايا الوصْل بين شرايين بيروت التي تنبع كلّها من الذاكرة، حاوياً الكثير من هذه الذاكرة: ذاكرة ما قبل الحرب، بحكاية بدء تشييده عام 1970 على أرض كان يملكها النائب الراحل ميشال المرّ، في إطار المنافسة على من يمتلك أعلى برْج في بيروت، مع ما تختزنه من قصص ذاك «الزمن الجميل»، مروراً ببداية الحرب الأهليّة التي لم تتِح لمشروع المرّ التجاري أن يكتمل، وتركت في زواياه قصصاً وحكايات وحقائق، تشمل قناصين ومحاربين يسقطون من فوق سطحه، ووصولاً إلى اليوم الحالي، حيث لا يزال البرْج حجراً وهيكلاً من الباطون المسلّح، من دون لونٍ، إلا لون الإسمنت، إذْ لم يسكنه سوى القنّاصين خلال فترة الحرب، ولا يزال منذ تملّكه من قبل شركة «سوليدير» من دون أيّ عمليّة ترميم أو تطوير، أو حتى هدْم، وإنْ كان قُيّض له، قبل حلول عام 2014، أن «يتربّع» على عرش أطول المباني في بيروت.

ذاكرة الحرب.. وما بعدها

هي ذاكرة الحرب الأهليّة تركت آثارها في بنياه، وتغلغلت بين أعمدته، فطبعته بشظاياها ومتاريسها ودمائها وفجواتها واختلافاتها. فيه يرى البعض أنفسهم وماضيهم، ومنه يرون الجهة الأخرى بعين قنّاص الحياة أو الموت. فيه يتعرّف البعض إلى ماضٍ سمع عنه أو لم يقرأه، ومن زاويته يقرأ بين سطور بيروت شارعاً شارعاً.

يومها، كان هذا المكان يطلّ على المحاوِر التي فصلت بين شطرَي العاصمة اللبنانية بيروت، على مدى 15 عاماً، وشكّل موقعه نقطة قتاليّة استراتيجيّة، مع دائرة وهميّة قطرها 2 كلم حوله، ارتسمت في مخيّلة اللبنانيين حينها، وأخافت كلّ من كان يفكّر في الاقتراب من المكان، حيث ارتفعت السواتر الترابيّة ونبت شجر الخروَع واستوطنت الكلاب «الداشِرة»، وسقط أبرياء كثيرون لم يتسنَّ لهم أن يحسبوا حساباً للقنّاص القابع في الداخل، والذي كان بالنسبة اليهم «آخر الدنيا»!

وبعد أن نال نصيباً كافياً من رصاصات الحرب التي خرقت جدرانه وشبابيكه، تحوّل في زمن السلْم إلى ثكنة عسكريّة، تارةً لوحدات من الجيش العربي السوري قبل انسحابه من لبنان عام 2005، وتارة أخرى لوحدات من الجيش اللبناني.. وما بين المشهديْن، الحرْب والسلْم، لم يدخل في سجلّ هذا البرج سوى مبادرة «يتيمة»، في سياق ربْط ماضيه بحاضره، قام بها الفنّان والمهندس اللبناني جاد خوري، إذْ ضخّ عام 2018 البهجة في نوافذ البرج، التي هي أشبه بقبور مبنيّة في الفضاء، من خلال تزيينها بالستائر الملوّنة، ما كسر الشحوب النمطي لهذا البرج، وخفّف من صورته التي ترتبط بمتاهة الحرب ولعبة القنّاص القاتلة. علماً بأن المشهد المستجدّ لم يدمْ أكثر من شهر، لأسباب معلومة - مجهولة، تراوحت ما بين ارتباطها بملكيّة المكان من جهة، وبتواجد وحدات من الجيش اللبناني في الداخل وما يملكه من خصوصيّة من جهة ثانية.

وهكذا، لا يزال «برج المرّ» على حاله، شاهداً على الحرب، عابقاً بالذكريات المثقوبة بالرصاص، وبالتواقيع التي تركها بعضهم على الجدران. يطلّ ويشرف على أغلب شوارع بيروت، دون أن تصل إليه نعمة الإعمار وإعادة التأهيل. ومن البعيد، يبدو كأنه «يعيش» بهدوء لا يعيق الحياة، لكنه لا يحتفي بها، ولا يصارع لأجلها. وذلك، في مشهد لا يمكن للعابرين تجاهله.

Email