قايد الأريام

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين يختلط الشجن بالفروسية يصبح للشعر مذاقه الفريد الذي لا يُضاهى ، وحين يأتيك هذا الشجن الممزوج بالذكريات من فارس عريق الأصل في دنيا الشعر تشعر أنّك أمام لوحة فنية رائعة التفاصيل ، وهذا هو الإحساس الذي تغلغل في وجداني حين سمعت هذه المقطوعة الشعرية الرائعة بصوت صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء ، حاكم دبيّ ، رعاه الله ، الذي أسعد قلوبنا بهذه الإطلالة الشعرية تحت وسم " ومضات شعرية " والذي نتمنى أن يكون رديفا لوسمه الفاعل المشهور "ومضات قيادية " الذي كان بمثابة الدليل الهادي لكثير من الأجيال التي تحتاج إلى هذه النظرات الثاقبة لصاحب السموّ الذي قدم لنا النموذج المتفرد في القيادة والتخطيط والشجاعة الإدارية والسياسية عبر مسيرته الطويلة في الحكم والإدارة ، لكن القلب بين الحين والآخر يبقى فيه مساحات للحب والحنين وترجيع الذكريات الضاربة في طوايا الروح فتكون هذه الومضات الشعرية بمثابة الواحة الخضراء في صحراء العمل والجد والإنجاز ، فما أسعدنا بهذه الإطلالة لصاحب السمو ،  ويا سعد الشعر حين يعود إليه فارسه وعاشقه ليعيد إليه بريقه ونضارته ومجده .

وخطاب المحبوبة من خلال الريح ونسيمها هو تقليد فنّي موروث بين الشعراء منذ قديم الزمان ، فقد كانت تتقطع بهم السبل ، وتوصد في وجوههم الأبواب فلا يجدون سوى نسيم الصبا وريح الشمال والجنوب رسولا أمينا يحمل الشوق والحنين للحبيب الذي حالت الظروف والصروف دون رؤيته ، ومن أبدع الأبيات الشعرية التي تعبر عن هذا الإحساس المرهف بين الأحباب قول جميل بثينة وقد غادر الحجاز واستقر في مصر ، وهاجت أشواقه إلى بثينة فلم يجد رسولا إليها سوى ريح الشمال فخاطبها في هذه الأبيات الرقيقة قائلا :

أيا ريح الشمال أما تَريني

أهيمُ ، وأنني بادي النحول

هبي لي نسمة من ريح بَثْنٍ

ومُنّي بالهبوب على عليل

وقولي يا بثينة حسبُ نفسي

قليلك أو أقلّ من القليل

واليوم هاجت الذكريات في قلب قائدنا وكبيرنا وشاعر وطننا المبجل صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد ، فكتب هذه المقطوعة التي تقطر رقة وعذوبة وشوقا وحنينا ، وألقاها بصوته العذب الحنون ، مع مادة مصوّرة للطبيعة الخلابة ترود فيها الظباء والغزلان ليجتمع من ذلك كله لوحة فنية فريدة تضاهي أعرق اللوحات وأكثرها شهرة وتأثيرا في الوجدان الإنساني .

يا نسيم البرّْ ، يا شرتا الينوب

بلّغْ المحبوب خبري والأمل

بكل هذه الرقة وبكل هذه العذوبة يفتتح سموه هذه المقطوعة الباهرة في إيقاعها الموسيقي الخلاب ، وكلماتها المرهفة الرقيقة ، وعواطفها الصافية النابعة من قلب فارس صادق الوجد ، مشتعل القلب بالحنين إلى الماضي الزاهي ، فيخاطب نسيم البر الرقيق الذي يمرّ على جبهة الفارس فيرقق من لفح الهجير ، وتساعد على ذلك ريح الجنوب التي ارتبطت في الوجدان بمجيء الخير عند هبوبها ، فالجنوب دائما هي بشرى الغيث ، فيطلب منهما إبلاغ الحبيب ما وصلت إليه حاله من الحنين الصادق ، والشوق اللاذع الذي تكتوي به الضلوع ، فعسى أن يرقّ قلبه ، ويحقق الأمل المنشود فيجود بالوصل ، وتخضر مرابع القلب التي أجدبت وقحطت بسبب هذا الجفاء والهجران .

لي عليه القلب مشتاقٍ طروب

يشبه الآرام غزلان السهل

وتزداد نبرة الشوق والحنين في هذا البيت ، ويصرح الشاعر بما يخفيه الضمير من صادق الوجد ونيران الحنين ، فالقلب مشتاق لهذا الحبيب ، والروح تطرب لذكراه التي لا تفارق الخيال ، فهو حبيب ليس كغيره بل هو المستبدّ بكل زوايا القلب ، وما ذاك إلا بسبب ما خصه الله به من الجمال الفاتن الذي يشبه به جمال الريم الفاتنة التي هي سيدة ظباء السهل حين تسير خلفها الظباء تعبيرا عن  دلالها وشعورها بجمالها ، وهو ما سيقع التصريح به في البيت التالي حيث تكتمل الصورة الجمالية الفريدة لهذه المهاة الفاتنة التي تخطف القلب ، وتشعل في حناياه نيران الوجد والشوق .

قايد اريام المها فالي عزوب

في الكفايف بين سيحه والرمل

وهاهنا تكتمل الصورة الجمالية حيث يرسم صاحب السمو وبإحساس شعري مبدع صورة رائعة الجمال لهذه الظبية الفاتنة التي جعلها قائدا لسرب الظباء والآرام وهي فالية في الصحراء ترعى على هينتها ودلالها ، في منطقة وادعة آمنة هي الكفايف بين سيحة والرمل حيث تجد الظباء أمانها وحاجتها من الرعي ، فيكون ذلك أدعى لإحساسها بجمالها حين تأمن من الذعر والقلق ، ليتشكل من ذلك كله هذه الصورة الفنية الرائعة التصميم التي أبدعتها يد شاعر يمتلك مهارات الرسام الذي يعرف كيف يصنع من التفاصيل الصغيرة لوحة مكتملة الإيحاء رائعة الجاذبية .

إن تهايا يخجل البدر الحجوب

ويحجب الياهي بنور يشتعل

وبين الظبية الفاتنة والقمر الساحر تكتمل صورة هذه الحبيبة ، ففي هذا البيت يتسع مدى الوصف ليشمل أجمل ما في السماء : البدر والنجم ، فإذا ظهرت هذه الحبيبة الجميلة ، أخجلت البدر المحجب خلف الغيوم والسحب الرقيقة ، وإذا طلعت في الليل حجبت ضوء النجم بما يشع منها من النور المشتعل ، ليكون ذلك كله بمثابة العذر لقلب الشاعر الذي تعلق بهذا الظبي العنود الجفول الذي يشعر بجماله ودلاله ، ويمارس عنفوانه على قلب العاشق ثقة بتمكنه وإدلالا بنفسه ، وهذا هو دأب الفرسان ، يصولون على الرجال في الميادين ، وتقتلهم النظرات الضعاف من حسان الوجوه ، لتظل كلمات جرير خير معبّر عن هذه الحالة العجيبة من علاقة الحب بالشجاعة والضعف بالفروسية حين يقول :

إنّ العيون التي في طرفها حَوَرٌ

قتلننا ، ثم لم يُحيين قتلانا

يصرعْنَ ذا اللبّ حتى لا حراك به

وهُنّ أضعف خلق الله إنسانا

ستبقى ترانيمك الخالدة يا صاحب السموّ عميقة الرسوخ في القلب والوجدان ، وسيبقى لشعرك كل هذا الألق الذي ننتظره بشوق صادق ، فطوبى لنا بعودتك إلى مدار الشعر ، مدارك العالي الذي يكشف للناس عن عمق إنسانيتك ورهافة مشاعرك ، وجلال حنينك ، يا صاحب السُّدة العالية في الشعر والأدب ، ولا زالت ربوعك عامرة بالخيرات والمسّرات .

Email