من جريدة «النخي» إلى منظومة رقمية وطنية

إعلام الإمارات.. فصول متواليـة من الإنجازات

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

بالفطرة البحتة، ومن مقهى عتيق في مدينة العين، من عام 1934، كان مصبح بن عبيد الظاهري يهم بجمع أوراق الكرتون المقوّى وجريد النخل، ودوّن عليها فوائد «النخي» (وهي حبيبات الحمص المسلوق)، ليستقطب المزيد من مرتادي المقهى، ويكثف من مبيعاته، حيث كان الظاهري يأتي بكميات كبيرة من «النخي» من دبي على ظهور الجمال، بسبب الإقبال الشديد عليه في العين من قبل الفقراء والموسرين على حد سواء، كما اشتهر المقهى بتردد الكثيرين عليه ليقرأ لهم الظاهري «مكاتيب» أحبابهم وذويهم المتغربين، على اعتبار أنه كان من القِلّة التي تجيد القراءة والكتابة آنذاك.

تدوين

إلا أن الفكرة لم تقف عند هذا الحد، إذ خطر في باله تدوين بعض الأخبار الاقتصادية، وطوّر التجربة لاحقاً، فبدأ بكتابة الأخبار والمعلومات عن المواليد والوفيات والأعراس وأحوال الطقس، وغيرها من الأخبار وفي مرحلة لاحقة أضاف الأخبار التي كان يسمعها من إذاعة «صوت العرب» و«لندن»، إلى ذلك، دأب الظاهري أيضاً في تلك الفترة على جمع الأخبار والقصص من أبناء الإمارات العائدين من العمل في دول الجوار ونشرها في صحيفته التي كانت تشبه صحف الحائط المدرسية.

حكايات وأخبار

ثم حدث التطوير الأهم الذي يعد بداية صناعة الفرق، وهو اتخاذ الورق العادي في تحرير مواد الصحيفة بدلاً من جريد النخل والورق المقوى، ونشرها وبيعها للمهتمين بشؤون الإمارات، وهكذا ظهرتْ بواكير أولى لصحف الإمارات من منطقة العين بجهود الظاهري الفردية تحت اسم «النخي»، هذا الاسم الشعبي الغريب الذي التصق بها دون تخطيط، نتيجة عمل عفوي هو الدعاية للنخي، وليس هكذا فحسب، فقد كان الظاهري شديد الاهتمام بمقهاه، وكان حريصاً على عدم التفريط في زبائنه، فأحضر لهم الأسطوانات وجهاز «الفونوغراف» المعروف محلياً باسم «البشتخته» لأول مرة في تاريخ العين، إذ اشتراه من تاجر في دبي اسمه يوسف حبيب اليوسف.

حلم بـ 25 روبية

وذات يوم زار جندي بريطاني مقهى «النخي» وبيده جهاز لم يره الظاهري من قبل، فسأله عن الجهاز الذي كان يطلق أصواتاً ومعزوفات، فرد الجندي قائلاً: إنه الراديو، وأراه طريقة تشغيله وإغلاقه وتغيير موجاته، فأخذ بعض رُوّاد المقهى يكبّر ويستعيذ من الشيطان الرجيم ظاناً أن الآلة الغريبة مسكونة بالجن، فيما راح البعض الآخر يهرول بعيداً من شدة الخوف، أما صاحبنا فكان مشغولاً بالتفاوض مع الجندي البريطاني على شراء مذياعه، وإضافته إلى المقهى كوسيلة ترفيهية وإخبارية جديدة، كانت بالنسبة له كالتنقيب عن حلم، وسط نضوب الخيارات، فباعه إياه في نهاية المطاف بـ 25 روبية!

ومع مرور الأيام، لم يعد الراديو في نظر أهالي المنطقة كآلة للجن، بل تكيّف رُوّاد المقهى مع الراديو، واستحسنوا وجوده ولكن يبدو أن تعلّق الظاهري بإذاعة «صوت العرب» المصرية، جعله ذات مرة يـُقْدم على كتابة مقال سياسي ونشره في الصحيفة وهو ما أدى إلى إغلاقها.

الهواية والاحتراف

بمنجل القلم، وبياض السطور المتصحر، قطعت الصحافة الإماراتية المسافة بين الهواية والاحتراف في عدد محدود من العقود مستفيدة من تراكم معرفي استمر قروناً منذ نشأة الصحافة، لتشكل جسر العبور المعرفي وحلقة وصل مهمة في تكوين ونشأة هذا الوطن، وبنية تحتية صلبة شهدت على العديد من التحولات، وعقود طويلة من التغيير والوحدة والاستقلال، وكانت شاهدة على ولادة دولة الإمارات يوم عنونت صحيفة «الاتحاد» في الثاني من ديسمبر بمانشيت أحمر عريض على أولى صفحاتها:

«قامت دولة الإمارات العربية المتحدة.. في يوم من أيام التاريخ.. تم إعلان الدولة العربية رقم 18، دولة مستقلة ذات سيادة وجزء من الوطن العربي الكبير، تحمي حقوق وحريات شعبها»..

فصول استثنائية

وهي حقبة استثنائية مرت بمرحلتين مفصليتين وتجارب مدروسة حتى باتت تتمتع بشكلها الاحترافي وهما: مرحلة البناء والانتشار (1965-1995)، وشهدت هذه المرحلة صدور «الاتحاد» 1969 في أبوظبي، وتلتها صحف «الخليج» و«البيان» و«الفجر» و«الوحدة».

ومن سمات صحف تلك المرحلة: المهنية المؤسسية، ندرة العناصر المواطنة، استقدام تقنيات حديثة، الدعم الحكومي، التشابه في المضمون. أما مرحلة النضج والتطور (1995 حتى الآن) فمن أبرز ملامحها: تأثرها بالتغيرات التقنية والإلكترونية، وثورة الاتصالات وظهور الصحافة الإلكترونية، كما شهدت الصحافة الإماراتية صدور العديد من المجلات الأسبوعية.

تطوير المحتوى

ثلاثية الإرادة والأدوات والبنية التحتية الرقمية، كانت أبطال التحول الفريد في الإعلام الإماراتي المقروء والمسموع والمرئي، وبدأت المؤسسات الإعلامية في الدولة منذ السنوات الثلاث الأخيرة خططاً استراتيجية لتطوير المحتوى الرقمي والمطبوع بشكلٍ متوازٍ ضمن توجه موحد ونسق متكامل، كما تغير حجم النسخة الورقية لبعض الصحف من 100 صفحة قبل بضع سنوات إلى 60 صفحة حالياً.

منصات الفيديو

فيما كان يعتمد منذ عدة سنوات بشكل كامل على محتوى النسخة المطبوعة للصحف، باتت المواقع الإلكترونية الخاصة لكل وسيلة إعلامية وطنية، تقدم مواد صحفية مخصصة للإعلام الرقمي، من خلال منصات الفيديو التي تقدم محتوى مصوراً ومتنوعاً في مختلف المجالات، كما في صحيفة «الاتحاد» و«البيان» و«الإمارات اليوم»، إذ أدركت الصحف الإماراتية أن العالم يعيش الآن عصر الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة، وخطت هذه الصحف دروب التقنية الرقمية في عملها، وأسهمت في إعادة إحياء دور الراديو عبر الوسائط الرقمية من خلال تقنية الــ«بودكاست»، بحيث يمكن للقارئ الاستماع لمختلف المواد الصحفية.

تجربة فريدة

كانت «البيان» سبّاقة في دخول عالم الذكاء الاصطناعي محققة تحولاً جديداً في مسيرة إعلامها الرقمي الذي يصحب الجمهور دائماً إلى «فضاءات بلا حدود»، وقدّمت الصحيفة على موقعها الإلكتروني تقنية «التخصيص الذكي» التي تتيح لكل متصفح أن يكون له موقعه الخاص، حسب جنسه وعمره والمكان الذي يوجد فيه، وسميت هذه الخاصية بــ«بياني، موقع لكل قارئ»، ومن شأنها أن تضفي الطابع الخاص على تجربة التصفح.

كذلك أطلقت «البيان» تقنية جديدة هي «المساعد الافتراضي الصوتي للبيان»، وتم استحداث تطبيق خاص هو «البيان AI» وبالإمكان تحميله عبر الهواتف والأجهزة الذكية، ويتيح للمتصفحين أن يتحدثوا بصوتهم للتطبيق، ويسألوه عما يرغبون في قراءته، الأمر الذي ساهم بأن تترشح «البيان» لجائزة الصحافة الذكية ضمن جائزة الصحافة العربية لثلاثة أعوام متتالية، وهو إنجاز يضع الصحيفة أمام تحدٍّ ومسؤولية لمواصلة التميز والتطوير.

Email