محطات في رحلة استغرقت 43 عاماً

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

الساعة الثالثة والربع تقريباً من فجر يوم السبت الموافق 1979/3/3 حطت طائرة الخطوط الجوية العراقية التي كُنْتُ على متنها فوق أرض مطار أبوظبي قادمة من بغداد. وبمجرد فتح أبواب الطائرة استقبلتنا لفحة هائلة من الرطوبة التي لم أعهدها من قبل، أكملنا إجراءات الدخول التي كانت بسيطة وميسّرة، يرافقها كلمة أهلاً وسهلاً مرسومة على شفاه مبتسمة، هكذا كان استقبال موظفي المطار ولا يزال ليومنا هذا… من هنا بدأنا.

المحطة الأولى بدأت في أبوظبي في رحلة البحث عن عمل يتناسب مع تخصصي الأكاديمي وخبرتي العملية. الرحلة لم تكن سهلة وميسّرة بل رافقها الكثير من الصعاب والإخفاقات إلى أن استقر الأمر للعمل في مهمة استشارية مؤقتة تقضي بإعداد دراسة لتطوير العمل الإداري لدى لجنة الشيخ خليفة التي سميت فيما بعد دائرة الخدمات الاجتماعية والمباني التجارية، وبفضل من الله تم إنجاز الدراسة المطلوبة وتطوير العمل في هذه الدائرة من خلال تنفيذ التوصيات التي تقدمت بها، وكان هذا أول إنجاز أفخر بتحقيقه على أرض العاصمة، من هنا بدأت تتشكل لدي مشاعر تمثل مزيجاً متناغماً من الراحة النفسية والاطمئنان، والرغبة في وضع بصمة إيجابية فوق هذه الأرض الطيبة ولو بشيء يسير يتناسب مع قدراتي. 

المحطة الثانية كانت في دبي، حيث وصلت إليها بعد أن صدر أمر تعييني في إدارة الدراسات والبحوث بوزارة الأشغال العامة والإسكان، شعرت وكأن الله سبحانه وتعالى قد هيأ لي فرصة مناسبة لتحقيق رغبتي تلك، حيث تم تكليفي منذ الأيام الأولى لعملي بالتواصل مع جامعة الإمارات في العين للتنسيق بشأن إعداد دراسة هيكل تنظيمي جديد للوزارة، وهو الأمر الذي يتناسب تماماً من تخصصي، ومن ثم أتيحت لي فرصة جديدة للعمل بشكل وثيق مع الخبراء الذين توافدوا للعمل في الوزارة ضمن برنامج الدعم الذي كانت تحظى به مختلف وزارات الدولة من قبل الهيئات المنضوية تحت مظلة الأمم المتحدة كل حسب تخصصها، كنا جميعاً مواطنين ووافدين نعمل بزخم كبير في أجواء تسودها المحبة والوئام، وأضيف لهذا الزخم عنصر جديد بعد أن بدأت جامعة الإمارات برَفد دوائر الدولة المختلفة بالخريجين والخريجات من مختلف التخصصات والذين كانوا يمتلكون من الحماس الشيء الكثير الذي ساعدهم على سرعة اكتساب الخبرة العملية المطلوبة لمسايرة الانطلاقة القوية والشاملة التي كان يقودها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، لبناء الدولة الحديثة والعصرية. 

على صعيد متصل كانت مشاريع البنية التحتية تنفذ بوتيرة متسارعة وكأنها في سباق مع الزمن، المدارس والمستشفيات والطرق والجسور والمباني العامة ومباني الخدمات، كل يوم يظهر بناء جديد وتفتح طرق جديدة وتظهر معالم جديدة في مختلف مدن الدولة، في ظاهرة نادرة لا يمكن تفسيرها إلا بأحلام تتحقق تباعاً على أرض الواقع يساندها قرارات حكيمة وقوانين نافذة تهدف إلى تأمين ما يشبه ثورة بناء وتعمير وتأسيس قوي لأركان هذه الدولة وحمايتها من أي عوامل قد تؤثر على مسيرتها الرائدة. 

المحطة الثالثة كانت في الشارقة، وعلى الرغم من أن هذه المحطة كانت مقتصرة بشكلٍ رئيسي على السكن إلا أن الإنجاز الكبير الذي تحقق فيها هو تأسيس عائلتي التي افتخر بها، والتي شكلت لِي حافزاً قوياً على استمرار العطاء وتنشئة أولادي على أن يكونوا متفوقين دوماً في تحصيلهم العلمي، وأن يشكلوا نموذجاً فريداً من التفاني والإخلاص  في العمل، وبفضل من الله فقد باتت جهودهم ومساهمتهم الفاعلة في تنمية وتطوير المجتمع الذي يعيشون فيه واضحة للعيان كل حسب تخصصه سواء في مجال الإعلام أم التعليم، والثقافة، والأدب، والفن وتطوير التكنولوجيات الحديثة. 

وكما في كل سفر كان لابد من الوصول إلى الوجهة النهائية التي يستقر فيها المسافر بَعْدَ أن بلغ غايته. وشاءت الأقدار أن تحمل محطتي الأخيرة الرقم واحد، محطة اخترقت السحاب من خلال برج خليفة، ومن ثم عانقت السماء من خلال مسبار الأمل، وتوجت بلؤلؤتين دانتين تحتضنان كلمتين هدأت هما النفوس واطمأنت إليهما الأفئدة «لا تشلون هّم» قالها من أؤتمن على إرث المؤسس الخالد زايد يرحمه الله.

---

سلسلة مقالات ” بين الخمسين والخمسين” تروي قصص وحكايات لأشخاص عاشوا حاضرهم وماضيهم في دولة الإمارات العربية المتحدة.

شارك قصتك في دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال زيارة الرابط  www.uaeyearof.ae

Email