أول رئيس مواطن للمحكمة الاتحادية العليا

د. العبدول : عملي استوعب كل وقتي حتى إجازتي العائلية

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من ذكريات الزمان نبحر في أعماق الشخصية، ونتلمس مواقف وتجارب ومناسبات لا تنسى.. في «زيارة» نجلس معاً على حافة الماضي، فنتداخل مع ما تجول به ذاكرةٌ كان لها من التجربة نصيب، ومن الخبرة قدر وفير. في «زيارة» نستعيد مع النفس والروح شريط الذكريات المرتسم طوال سنوات، ونتعرف على الشخصية من جوانبها الرسمية والذاتية، ونتطرق إلى أيام وليالٍ عبرت بها حتى يومنا الحالي، ونستظل بحكاياتها الشيقة، ونتشارك في مائدة الزمان الوفيرة بصنوفها المروية والمرئية، بالكلمة والصورة والوصف والتصوير، نلملم خبايا رحلة عمر.. إنها زاوية يومية، نطل منها عليكم طوال أيام الشهر الكريم، عنوانها «زيارة».

رغم ما عرف عن الدكتور عبدالوهاب العبدول من غزارة في العلم، وحسم وقوة في عمله القضائي، وحنكة وبراعة في رئاسته لأعلى محكمة في الدولة وهي المحكمة الاتحادية العليا، إلا أنك عندما تقابله تجده انساناً بسيطاً يشبه في ملامحه وطيبته آباءنا، ولا تستطيع إلا أن تعطيه مسامحة من مشاعر الود والاحترام داخلك، فهو يتعامل مع الجميع بتلقائية غريبة بالنسبة لمن يتحمل هذا الحمل الديني والدنيوي، ويمثل ظل الله على أرض الإمارات، وقد تستغرب أن ترى هذا الكم من الود والبساطة يصدر عن نفس الشخص الذي عرف بقوته في الحق، حتى أسندت إليه الدولة رئاسة أعلى مناصبها القضائية، بل سلمته أيضاً رئاسة الدائرة الدستورية التي تعتبر أحكامها فصل القول في كل ما يتعلق بدستور البلاد.

الدكتور عبدالوهاب العبدول يجمع ببساطة العربي الأصيل، بين القوة والمحبة في قلب كبير أعطى وطنه كل لحظة من حياته، حتى أصبح نموذجاً لابن الامارات الذي يحق لوطنه أن يفخر به.

في «زيارتنا» هذه تحدث الدكتور العبدول عن حياته وطفولته التي اعتبرها سعيدة في ظل أسرة محبة ومتماسكة، مؤكداً أنه عندما بدأ العمل القضائي لم يكن يدرك حجم ما يحمّل نفسه من أعباء وقيود، لكنه أحب هذا العبء ورضي بالقيد فخوراً بتحمله من أجل خير بلاده. وفي ما يلي نص كلمات الدكتور العبدول المفعمة ببلاغته في الوصف.

الميلاد والنشأة

يقول الدكتور العبدول: ولدتُ في الحي الغربي من مدينة عجمان يوم 17 أكتوبر 1950. حيث عشت فترة طفولتي في بيت جدي لأبي في كنف والداي، مع عمي وأبنائه الأربعة. وغير بعيد عن بيتنا، كانت بيوت جميع أقاربي وأرحامي. كانت حواري وأزقة الحي هي مراتع ألعاب طفولتي البريئة، ولم يكن البحر «الخور» بعيداً عن منزلنا، إذ لم يكن يبعد عنا سوى 500 متر تقريباً، لكن لم تكن بيني وبينه علاقة حميمة. لعبت لعبة «الهشت» و«الترتور» و«الزبوت» وسباق سفن الألعاب، و«التيلة». واشتركت مع من كان يكبرني قليلاً من أقاربي في صناعة بعض الألعاب من العلب الفارغة أو قطع الأخشاب المستخدمة أو الحديد الخردة.

ويضيف: ختمت القرآن الكريم على يد الفاضلة عائشة بنت سلطان والدة المربي الفاضل عبدالله بن علي بن راشد القيواني يرحمهما الله، وأجريت لي مراسم التخرج «التحميدة» لمدة ثلاثة أيام متتالية طفت خلالها مع زملائي طلبة المدرسة «الكتاب» على جميع بيوت عجمان.

في كنف الأسرة

وعاش الدكتور عبدالوهاب طفولته سعيداً ومحظوظاً، فقد قضاها بين أهله وأقاربه وعشيرته، وكانت والدته متعلمة ومثقفة بمقاييس ذلك الزمان، فهي تقرأ القرآن وتطالع الكتب ولها معرفة بتاريخ العرب وأحوالهم، وحروب الفرس والروم. كما أنه من أسرة اشتغلت بالتجارة. فجده لأمه الحاج يوسف أبوالشوارب، كان تاجراً ولا يزال العبدول يحتفظ بشيء من دفاتره التجارية، وكذلك جده لأبيه أحمد عبدول. ووالده كان هو الآخر تاجراً يمتلك محلاً تجارياً كبيراً في مدينة الخبر السعودية، وكذلك خاله الذي كان يمتلك محلاً تجارياً في سوق «بوشالات» بمدينة دبي.

ولم أشعر العبدول بمرارة الحرمان من أي شيء، وكان يشعر فقط أنه ينقصه أخ شقيق، فقد كان وحيد والديه. لكنه كان يعوض هذا الشعور بشقيقته الوحيدة، وبأبناء عمه وأبناء خاله.

الحياة قبل النفط

ومن بين أسباب سعادة العبدول كما يقول حسن حظه أنه عاصر وعايش المرحلة الانتقالية للمجتمع الإماراتي من مرحلة ما قبل النفط أو مرحلة الغوص، إلى مرحلة النفط والوفرة. ولا تزال ذاكرته تحتفظ وتختزن صور بقايا مراكب الغوص وهي جانحة على ساحل الخور، وبيوت العشيش المصنوعة من جريد النخل، وبعض البيوت المبنية من أحجار البيم والجص، والمحلات التجارية ذات الأبواب الخشبية في السوق المسقوف، وآبار منطقة الرميلة والسقاة وهم يجلبون الماء منها على ظهور الحمير إلى بيوت ومنازل الفريج، وسفن صيادي الأسماك الراسية في مياه الخور.. وغيرها من الصور.

ويوضح: كانت الحالة الاقتصادية في طفولتي تمر هي الأخرى بمرحلة الانتقال التدريجي من مرحلة الفقر والشظف إلى مرحلة الغنى والرفاه. وكانت الغالبية تعيش حالة شظف العيش، والقليل منهم من يعيش في يسر، والأقل من يعيش حالة الرفاه. كان معظم رجال وشباب الإمارات يعملون في دول الخليج النفطية كالبحرين وقطر والسعودية والكويت، في مهن وحرف مختلفة. أما من يبقى منهم في الإمارة، فإن سبل العمل أمامه كانت محدودة كصيد الأسماك أو التجارة البحرية أو التجارة المحلية الداخلية أو امتهان بعض الحرف والمهن كالنجارة والخياطة والبناء.. إلخ.

وبتدفق النفط في الإمارات وتصديره تجارياً في أوائل ستينيات القرن الماضي، تغيرت الأحوال وتبدلت الحالة الاقتصادية والمعيشية لسكان الإمارات، فحلَّ الغنى محل الفقر والرفاه محل الشظف، وتزامن كل ذلك مع قيام دولة الإمارات العربية المتحدة. فلله الحمد والمنة أولاً وأخيراً.

التعليم المدرسي

ويستطرد عبدالوهاب العبدول: في العام الدراسي 1959/1960، أدخلني والدي مدرسة الراشدية بعجمان وهي أول مدرسة نظامية للبنين أنشئت في عجمان. وما أن أكملت عامي الدراسي الأول حتى انتقلت مع أسرتي إلى مدينة الخبر بالمملكة العربية السعودية، حيث درست في إحدى مدارسها التي كانت تحمل اسم مدرسة الخبر الثانية، صفوف السنوات الابتدائية الثانية والثالثة والرابعة، وعدت بعدها إلى عجمان ثانية والى مدرسة الراشدية التي أكملت فيها المرحلة المتوسطة (أربع سنوات) وحصلت على شهادة اتمامها (الشهادة المتوسطة العامة).

كانت هذه المرحلة آخر مراحل الدراسة في مدرسة الراشدية آنذاك، وكان على من يرغب إكمال دراسته المدرسية الالتحاق إما بمدرسة العروبة بالشارقة أو بمدرسة ثانوية بدبي. ولقرب مدرسة الراشدية من مدرسة العروبة فقد أحالت إدارة المدرسة الأولى ملفات طلبتها الناجحين من الشهادة المتوسطة العامة إلى إدارة مدرسة العروبة. وبهذه الإحالة أصبح العبدول أحد طلبة مدرسة العروبة العتيدة، والذي كان ناظرها يوم التحاقه بها الأستاذ الفاضل محمد طمان، فيما كان ناظر مدرسة الراشدية الأستاذ الفاضل مجدالدين عبدالحميد شاهين يرحمهما الله.

في العام الدراسي 1972/1973، أكمل العبدول الدراسة الثانوية وحصل على شهادتها العامة وكان من بين العشر الأوائل، وتم تكريمه عن هذا النجاح في عيد العلم الأول.

التعليم العالي

ومن دون تخطيط مسبق دخل الدكتور العبدول كلية الحقوق وحصل على إجازة القانون من جامعة الإسكندرية عام 1978 بتقدير جيد. وبحصوله على إجازة القانون أصبح أول شخص في أسرته وعشيرته يحصل على إجازة جامعية في هذا العلم، وأحد القلائل من أبناء عجمان الذين حصلوا على هذا المؤهل، إذ لم يكن عددهم في عام 1978 يزيد على عدد أصابع اليدين.

وفي عام 1992 حصل على شهادة الماجستير في القانون العام تخصص قانون دولي عام، من كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة محمد الخامس بالرباط بدرجة جيد، وكان موضوع الرسالة عن جزرنا الثلاث المحتلة (أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى) من منظور مبادئ القانون الدولي. وفي عام 2005 حصل على شهادة الدكتوراه في الحقوق من الكلية ذاتها بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف، وكان موضوع الرسالة في القانون الدولي الجنائي، وتحديداً عن المسؤولية الدولية الجنائية للأشخاص الطبيعيين.

العمل القضائي

حينما التحق العبدول بالعمل في سلك القضاء، لم يكن يعلم صعوبة ومشقة العمل في هذا السلك، ولم يكن يعي تماماً مسؤولياته الدنيوية والأخروية والتزاماته القانونية والأدبية. لم يكن يعرف أن العمل في القضاء سيأخذ كل وقته وسيحرمه حتى من الجلوس الهادئ والمريح مع أفراد أسرته حتى في أيام إجازاته. لم يكن يعلم أن هذا العمل سيضيق من نطاق علاقاته الاجتماعية وسيقيده بمجموعة من القيود التي تحظر على إتيان أعمال تعتبر عادية ومقبولة لغير المشتغل في القضاء. لم يكن يعرف إنه سيخسر منافع كبيرة. وعندما أدرك كل هذا، وجد نفسه لا يستطيع العيش خارج القضاء بعيداً عن العمل القضائي، فرضي بكل قيوده التي أصبح يفتخر بها، وأصبحت المنافع متاعاً لا تلفت نظره ولا توازي شيئاً أمام جلسة محاكمة واحدة يقضيها العبدول على منصة القضاء.

ورغم أنه يتولى قيادة المحكمة الاتحادية العليا قضائياً وإدارياً بحكم رئاسته بها، إلا أنه لا يزال يمارس وظيفة القضاء ويترأس ثلاث دوائر بها تعقد جلساتها أسبوعياً، وله فصل يظهر في جدول الإحصاء الشهري للمحكمة كباقي قضـاتها.

 

أول رئيس محكمة

 

في مضمار التدرج الوظيفي، عُين الدكتور عبدالوهاب بتاريخ 6/11/1978 في وظيفة وكيل نيابة من الدرجة الثانية، ثم إلى وكيل نيابة من الدرجة الأولى، ثم إلى رئيس نيابة بنيابة استئناف أبوظبي. وفي 23/1/1984 عين قاضياً بمحكمة أبوظبي الاتحادية الاستئنافية، ونُدب محامياً عاماً لنيابة الاستئناف، وعقب انتهاء مدة الندب عاد قاضياً بذات المحكمة حتى عين رئيساً لها في 30/4/1990 . وفي 22/1/1995 عُين قاضياً أصيلاً بالمحكمة الاتحادية العليا، وهو أول مواطن يُعين قاضياً في هذه المحكمة. وفي يناير 2005 عُين رئيساً لها، وبذلك يصبح أول رئيس مواطن للمحكمة الاتحادية العليا.

 

 

أوقات الفراغ والبحوث

 

إلى جانب عمله القضائي والإداري، فإن العبدول ينشغل أيام الإجازات والعطلات، أو ما يتبقى له من ساعات الفراغ في البحث العلمي. وقد صدر له مؤخراً كتـاب جديد بعنوان (نحو تأسيس قضاء مجتمعي) طرح فيه فكرة استحداث إطار تحاكمي جديد لحل القضايا والمنازعات، خلاف الأطر التحاكمية التقليدية. كما أنه الآن بصدد إصدار كتاب آخر يتناول تاريخ القضاء الإماراتي خلال العصور القديمة، ويقصد بالعصور القديمة، العصر الحجري والعصر البرنزي والعصر الحديدي. وهو موضوع جديد لم يسبق التطرق إليه من قبل.

 

 

العبدول الأب والجد

 

يقول الدكتور عبدالوهاب العبدول: على المستوى الشخصي والأسري، فأنا زوج وأب وجد. ولي أبناء كبار يعملون، وآخرون يدرسون في الجامعة، وبعضهم لا يزال على مقاعد المدرسة . ولم أفرض رأياً يوماً على أبنائي في خياراتهم أو قراراتهم، وإن تدخلت فلإبداء الرأي والنصيحة والمشورة. وأنا أعيش حياة عادية، أحب البساطة في كل الأمور، وابتعد عن كل مظاهر التباهي والتفاخر، وعلاقاتي الاجتماعية محدودة جداً. ولا أقبل الإساءة من أي أحد، لكني لا أحمل حقداً على أحد.

Email