الجــزء الـرابـع عـشــر في القرآن الكريم

المجرمون قطعوا كل الصلات مع الله

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يبـدأ هـذا الجـزء من القرآن الكريم، من الآيـة [ 1] من سورة الحجـر، وحتى الآيـة [ 128] من سورة النحـل، ومـمـا ورد فيـه:

(كـذلك نسـلكه في قلوب المجـرمين)[ الحجـر 12 ]:

المجرمـون: هم الذين قطعـوا كل الصلات مع الله سبحانه: ( إنا كـذلـك نفعـل بـالـمـجــرمـين إنهـم كـانوا إذا قـيل لـهـم لا إلـه إلا اللـه يسـتـكـبرون)[الصـافـات 34 ]، فمعنى كلمة جـرم: قطع، وصفات المجرمـين هي: ( يتسـاءلـون عـن الـمـجـرمـين مـا سـلـكـكـم فـي سـقر قالـوا لـم نك مـن الـمـصـلـين ولـم نك نطـعـم الـمـســكـين وكــنا نخـوض مـع الـخـائـضــين وكـنا نكـذب بيوم الـدين )[ المدثر 41/ 46 ]، و رفضوا رحمة الله وعطاءاته بإرادتهم، وأرادوا قطع الصلة به: (ويا قوم اسـتغـفروا اللـه ثم توبوا إلـيه يرسـل السـماء عـلـيكـم مـدرارا و يزدكـم قوة إلـى قوتكـم و لا تتولـوا مـجـرمـين ) [ هود 52 ]، والذين يعرضون عن القرآن الكريم هم مجرمون أيضاً: (و مـن أظـلـم مـمـن ذكـر بآيات ربه ثم أعـرض عـنهـا إنا مـن الـمـجـرمـين مـنتقـمـون )[السجدة 22]، ( وأما الـذين كـفروا أفلـم تكـن آياتي تتلى عـلـيكـم فاسـتكـبرتـم وكـنتم قوما مجـرمـين) [ الجاثية 31]، (فمـن أظـلـم مـمـن افترى عـلـى اللـه كـذبا أو كـذب بآياته إنه لا يفلـح الـمـجـرمـون )[ يونس 17]، ( أم يقولـون افتراه قل إن افتريته فعـلـي إجـرامـي وأنا بريء مـمـا تجـرمـون )[ هود 35 ]، ( فإن كـذبوك فقـل ربـكـم ذو رحـمـة واسـعـة و لا يرد بأسـه عـن الـقـوم الـمـجـرمـين )[ الأنعام 147]، (و كـذلـك نفصـل الآيات و لـتسـتبين سـبيل الـمـجـرمـين )[ الأنعام 55]، لذلك كانت عاقبتهم وخيمة يوم القيامـة: (سـيصـيب الـذين أجـرمـوا صـغـار عـند اللـه وعـذاب شـديد بمـا كـانوا يمـكـرون) [ الأنعام 124 ]، صـغـار: منتهى الذل، ( ويوم تقوم الـسـاعـة يبلـس الـمـجـرمـون ) [الروم 12]، يبلـس: منتهى اليأس ومنه كلمة إبليس لأنه يئس من رحمة الله، (ولـو ترى إذ الـمـجـرمـون ناكــسـوا رؤوسـهـم عـند ربهـم ربنا أبصـرنا وسـمـعـنا فأرجـعـنا نعـمـل صـالـحـا إنا مـوقنون )[السجدة 12].

( فـتحـنا عـلـيـهم بابا مـن الـسـمـاء)[ الحجر 14]:

قضت مشيـئة الله بأن يطـلع الإنسـان على آيات الله في الآفاق العـليا: ( سـنـريهـم آيـاتنا في الآفـاق ) [فصلت 53]، لذلك فتـح الله للإنسان أبواباً خاصة في السماء لـيعرج [ ليصعد] منها للفضاء بإذن اللـه و إرادته: (ولـو فـتحـنا عـلـيـهم بابا مـن الـسـمـاء فـظـلـوا فـيه يعـرجـون) [ الحجر 14].

نلاحظ في عصر الفضاء، أن هناك أماكن محددة [أبواباً] يتم منها إطلاق المركبـات الفضائيـة، فبالنسبـة لروسيـا أصبح مركز إطلاق مراكبهـا الفضائيـة [ مركز بايكونور ]، أصبـح في جمهورية كازاخستان بعد تفكك [الاتحاد السوفييتي السابق ]، فلماذا لا تبني روسيـا مركز إطلاق في أراضيهـا وترتاح من أخذ إذن من كازاخستان في كل مرة تريد فيها إطلاق مركبة فضائيـة، ثم لماذا لا تبني الولايات المتحدة الأميركية مركز إطلاق سفنها الفضائية في صحراء [ نيفادا]، وتتخلص من مشكلة وجـود عواصف رعدية فوق مركز [ كيب كانافيرال] في جزيرة مريت على الساحل الشرقي لولاية فلوريدا على المحيط الأطلسي، إذ تعيق هذه العواصف عمليـة الإطلاق لأيام عـدة، ثم لماذا تذهب أوروبا بصاروخها [آريان] إلى [غويانا الفرنسية] على بعد آلاف الأميال في المحيط، لإطلاقه من هناك ولا تبني قاعدة إطلاق داخل أراضي القارة، هل يعني كل هذا إلا أن هناك أبواباً محددة من الخالق تعالى للعبور للفضاء.

(جـعـلـنا في الـسـمـاء بروجـا)[ الحجر 16]:

إن حزام السماوات الواقع في حدود [ 8 درجات ] من طرفي [ الدائرة الكسوفية ]، يسمى: [ دائرة البروج ]، ( والـسـمـاء ذات الـبـروج )[البروج 1]، ( ولـقـد جـعـلـنا في الـسـمـاء بروجـا )[ الحجر 16]، ( تبارك الـذي جـعـل في الـسـمـاء بروجـا)[ الفرقان 61]، إن مجموعات النجوم التي تمر عليها الشمس [ظاهرياً] تسمى علامات البروج، وعندما تقطع دائرة الكسوف خط الاستواء السماوي [الدائرة الاعتدالية]، تكون فترة الاعتدال الخـريفي [ 23 سبتمبر ]، وتكون الشمس أمام بدايـة برج الميـزان، وفترة الاعتـدال الربيعي [ 21 مـارس ] حيث تكون الشمس في بداية برج الـحمـل.

( فـأتـبعـه شـهـاب مـبين)[ الحجر 18]:

منع الجن والشياطين من الصعود إلى طبقات الجو العليا يوم ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي [يوم الاثنين 12 ربيع الأول من عام حادثة الفيل الموافق 20 أبريل 571 ميلادية ]، حيث بدأ في ذلك اليوم رجم الأرض بالشهب [المطر الشهبي] على ارتفاع 80 كم، ما بين طبقتي إستراسوسفير وأيونوسفير، و ذلك لمنع الجـن والشياطين خاصة من استراق السمع على الملائكـة الكرام [ المـلإ الأعلى]: ( إلا مـن اسـترق الـسـمـع فـأتـبعـه شـهـاب مـبين)[ الحجر 18]، وبذلك تـم عزلهم عن السمع تماماً: (إنهـم عـن الـسـمـع لـمـعـزولـون )[ الشعراء 212 ]، ( وإنا كـــنا نـقعـد مـنهـا مـقـاعـد لـلـسـمـع )[ الجن 9 ]، ولذلك استغربوا هذا الرجم الشهبي للأرض: ( وأنـا لـمـسـنـا الـسـمـاء فـوجـدنـاهـا مـلـئـت حـرسـا شـديـدا وشـهـبـا 000 وأنـا لا نـدري أ شــرٌ أريد بـمـن فـي الأرض أم أراد بـهـم ربـهم رشــدا )[ الجن 8 و 10]، مـلـئـت: دليل كثافة الشهب، شـهـبـا: شهب وليس نجوماً.

(أصـحـاب الـحـجـر)[ الحجر 80]:

هـم قوم [ ثـمـود ] نسبة لجدهم [ ثمود بن إرم ]، و هم عربٌ جاءوا بعد عرب عاد: ( إذ جـعـلـكم خـلـفاء مـن بعـد عـاد )[ الأعراف 74]، وقد خرجوا من الجزيرة العربية مع الهجرات العربية في القرن السادس قبل الميلاد، وسكنوا [ البتراء ] ومعناها الصخرة، واسمها العربي الرقيم، حيث عرفوا بـالأنباط، وكانت ديارهم [ مدائن صالح] تسمى الحجر [ السورة رقم 15 في القرآن هي سورة الحجر]: ( ولـقـد كـذب أصـحـاب الـحـجـر الـمـرسـلـين )[ الحجر 80 ]، وقد نحتوا بيوتهم من الصخر: ( وكـانوا ينحـتون مـن الـجـبال بيوتا آمـنين)[ الحجر 82 ]، ينحـتون مـن : نحتوا من الجبال حجارة صغيرة، ( وثمـود الـذين جـابوا الـصـخـر بالـواد )[ الفجر 9 ]، جـابوا : نحتوا الجبـال مباشـرة، ( وبوأكم في الأرض تتخـذون مـن سـهـولـهـا قصـورا وتنحـتون الـجـبال بيوتا)[ الأعراف 74 ]، قصـورا: حجارة صغيرة من الجبال لبناء القصور، تنحـتون الـجـبال بيوتا : نحت مباشـر لبنـاء البيوت، ورسولهم صالحٌ عليه السلام: ( وإلـى ثـمـود أخـاهـم صـالـحـا )[ هود 61 ]، وآيتهم الناقة التي خرجت من الصخر: ( فقـال لـهـم رسـول اللـه ناقة اللـه وسـقياهـا )[ الشمس 13 ]، (هـذه ناقـة اللـه لـكـم آية )[ الأعراف 73]، وقد عقرهـا [ قدار بن سالف]، وهو أشـقى رجال القوم: ( إذ انبعـث أشـقـاهـا )[ الشمس 12]، وشاركه تسعة أشخاص: (وكـان في الـمـدينة تسـعـة رهـط يفسـدون في الأرض)[ النمل 48 ]، وقد هلكت ثمود بالطاغيـة = [الصيحة + الرجفة].

المعجزة الإلهية الكبرى في خلق الإنسان

(خـلـق الإنسـان مـن نطـفة ) [النحـل 4]:

إذا نظرنا إلى عملية خلق الإنسـان من خلال المـادة والطاقة، نعرف هذا الإعجاز المذهل الذي وضعه الخالق سبحانه في عملية التلقيح بين نطفة الرجل وبويضة المرأة، علماً بأن النطفة تصنع في جسم الذكر، بينما تصنع البويضة في جسم الأنثى، وهما جسمان منفصلان مما لا يدع أدنى مجال للشك في أن الخالق واحد، و إلا كان من المستحيل حصول عملية التلقيح، في عملياتها البالغة الدقة، ولا نقرض الجنس البشري والمخلوقات الأخرى: (وفي أنفسـكـم أفلا تبصـرون )[ الذاريات 21].

في الوقت الذي يقوم فيه مبيض الأنثى بصنع البويضة، يجري صنع النطفة في جسم الذكر، ويجري تجهيز هذه النطفة، بحيث تتلاءم مع جسم الأنثى الغريب الذي ستدخله، والمجهول تماماً بالنسبة لها، ففي كل خصية عند الذكر يوجد أقنية مجهرية طولها نحو 500 متر، لإنتاج النطـاف المنويـة التي ستوصل 23 «صبغياً» من الذكر إلى البويضة بشكلٍ آمن لتتحد مع 23 «صبغياً» آخر من الأنثى، ومن أجل تنفيذ هذه المهمة، يجري صنع المركبة [النطفة ] من ثلاثة أجزاء أساسية، هي: الدرع والمحرك والذيل، فالدرع قاس وفي مقدمة النطفة، ليحمي الصبغيـات التي يحملها من عشرات الأخطار التي ستتعرض لها على الطريق نحو البويضة، ويقع خلفه [المحرك القوي] لتحريك الذيـل كالمروحة، ويعمل هذا المحرك على وقود خـاص هو [سكر الفركتوز]، ويوجد في السائل المنوي كمية محسوبة بدقة، تكفي لتشغيل 250 مليون محرك، هو عدد النطاف التي يقذفها الذكر في مهبل الأنثى عند كل جماع، لإيصالها للبويضة عن طريق الرحم.

وتتم المعجزة الإلهية الكبرى في خلق الإنسان، عند خلق النطاف والسائل المنوي: (أفرأيتم مـا تمـنون أأنتم تخـلـقونه أم نحـن الـخـالـقون )[الواقعة 58/ 59]، ( قتل الإنسان مـا أكـفره مـن أي شـيء خـلـقه مـن نطـفة خـلـقـه فقدره ثم الـسـبيل يسـره)[ عبس 17 / 20 ]، الـسـبيل: سبيل وصوله إلى البويضة وهو نطفة، ( خـلـق مـن مـاء دافق يخـرج مـن بين الـصـلـب و الـترائـب)[ الطارق 6 / 7 ]، والطـاقة توجد في [ النطفة ] وليس في [ البويضة ]، لأن البويضة ذات طـاقة خاملة فإذا لـم يتم تلقيحهـا تتلف وتسقط في [الدورة الشهرية].

( وأوحـى ربك إلـى الـنحـل )[ النحل 68]:

النحـل والـذباب:

إن النحـل والذبـاب يجمعهما تصنيف علمي واحد، هو [صنف الحشرات]، ولكن الفرق بينهما أن النحـل قد تلقى وحيـاً من السماء: ( وأوحـى ربك إلـى الـنحـل ) [النحل 68 ]، وعندما التزم بهذه التعاليم ونفذها، أصبح النحل يأكل أفضل ما في الطبيعة [ رحيق الأزهار ]، ثم يعطي أفضل الأطعمة [ العسل ]، كما أنه يعيش في مجتمعات متعاونة، يؤدي كلٌ دوره فيها بصمت وتفان في العمل وضمن بيئـة نظيفـة.

أما الذبـاب فلم يتلق تعليمات سماوية، فبقي يأكل أقـذر ما في الطبيعة، ويعيش في بيئة قذرة، ولا يعطي إلا الأمراض وإزعاج الناس، كما يعيش ضمن مجتمع مفكك، ليس فيه أي رابطة، حيث تتصرف كل ذبابة وحدها، والنحل [ يعطي] العسل الذي فيه شـفاء للناس: ( فيه شـفاء للـناس)[النحل 69]، بينما الذباب [يسلب] بشكل مزعج: ( وإن يسـلـبهـم الـذباب شـيئـا)[ الحج 73] .

وفي ذلك عبرة للنـاس، فالإنسان الذي يلتزم بتعاليم السماء والأرض، هو إنسان أشبه ما يكون بالنحلة، التي تعطي دوماً بلا كلل و لا ملل، فالسـائق الذي يلتزم بتعليمات المرور دون الحاجة لشرطي يراقبه، هو إنسان يعكس صورة مجتمع منظم وحضاري، ويعطي الآخرين فكرة رائعة عن سلوكه الحسن في خدمة المجتمع فهو شـبيه بالنحـلة، أما الذي يسهم في تلوث البيئة، وإلقاء الأوساخ في الشارع ويسعى لفساد الحدائق والساحات، هو أشـبه ما يكون بالذبابة، التي لا يهنـأ لها العيش إلا بين الأوسـاخ، وداخل بيئـة ملوثـةٍ، والذي لا يهمه إلا أن [ يسلب] الآخرين أموالهم بالرشوة أو بالغش والاحتكار والاحتيال، أو يسلبهم راحتهم بمكبرات الصوت أو منبه السيارة، أو يسلبهم حاجاتهم الضرورية من الماء والكهرباء والغذاء، أشبه ما يكون بالذبابة، التي تقضي عمرها وهي [ تسلب]، ولا تعطي إلا الإزعاج، فما أروع أن تنفذ تعاليم السـماء السمحاء، التي تدعو إلى إقامة مجتمع تسوده المحبة والتعاون، وفيه فائض من الخيرات، ويكفي من العبرة أن المجتمع [يربي] النحل، بينما [يكافح ] الذباب، والسورة رقم 16 في القرآن الكريم هي (سـورة النحـل).

 

كـل هـذا واللـه أعـلم.

Email