لا يمكن أن تجبر المتلقي على أن يشاهدك الآن، فالخيارات أمامه أصبحت واسعة متعددة، وما هي إلا كبسة على زر جهاز التحكم عن بعد، حتى يكون قد غادرك إلى الأبد، وبناءً عليه، فإن على كل محطة تلفزيونية، أن تحدد بدقة نوعية الرسالة التي تستهدف تقديمها إلى المشاهد.

وإنني أتابع حال الإعلام التلفزيوني الفضائي الآن، فأشعر بالحزن والأسى على ما يحدث من خرق وانتهاكات متعمدة للأسس والقواعد التي تضبط الرسالة الإعلامية، وذلك تحت ذرائع واهية، مثل: كسر الحاجز بين المرسل والمتلقي والعفوية والتلقائية، علماً بأن تحقيق هذه الأمور لا يعني بحال من الأحوال الابتذال.

بهذه العبارات يبدأ الدكتور حمد علي، الإعلامي الإماراتي، ومذيع النشرة المخضرم، حديث ذكرياته، الذي يتناول فيه مسيرته المهنية ويلقي الضوء أيضاً على بعض جوانب حياته الخاصة.

في البداية أصر الرجل على الحديث عن رؤيته النقدية للممارسات التي يصفها بالمبتذلة في الإعلام الفضائي العربي قائلاً: أصاب بصدمات كهربائية عالية الجهد، حينما أشاهد المستوى المبتذل الذي تدنى له البعض، وأشعر بالأسى والحزن، حينما أتابع بعض الفضائيات التي تلجأ إلى السلق وتقديم الوجبات فقيرة الجودة، ويؤسفني أن الكثيرين يدعون أن هذه هي عناصر ما يسمونه بالإعلام الحديث، وبأن قيمة الاحترام لا تتناسب مع العفوية.

فهل من العفوية والاحترام، أن تقوم مقدمة برامج، بتقديم برنامجها الإسبوعي من غرفة نومها، لأنها كما قالت بلسانها: مصابة بنوبة برد؟
وهل التلقائية تعني أن يستخدم مذيعون مفردات سوقية متدنية، كي يقتربوا من المتلقي؟
وماذا عن دور الإعلام في الارتقاء بالناس وجدانيا وثقافيا وشعوريا؟

استنساخ
ويضيف: من الأمور التي تصيبني بالحزن أيضاً، أنني لا أكاد أجد برنامجاً تلفزيونياً في الفضائيات العربية، إلا مستنسخاً في فكرة من برنامج غربي شهير، وهذا الأمر ينطبق على برامج المسابقات، أو ما يسمى ببرامج الحوار المفتوح، وحتى في البرامج السياسية والتسجيلية والوثائقية، فالكل يركن إلى الخيار الأسهل... النقل بغير وعي!

ويفسر حمد علي شيوع النقل عن الإعلام الغربي قائلاً: لا أجد مبرراً لهذه الظاهرة، إلا أن القطاع الأكبر من الإعلاميين اليوم، ليسوا على درجة عالية من الثقافة، فالإعداد التلفزيوني وإن كان فناً في المقام الأول، إلا انه يتطلب ثقافة رفيعة واسعة، كذلك يمكن القول بأن هناك جيلاً من الإعلاميين منفصلون عن واقعهم الحضاري والثقافي، فإذا بهم منبهرون بالثقافة الغربية مستغرقون فيها.

من جانب آخر، أريد أن أؤكد أيضاً، أن اختلال المعايير الوظيفية، ومنح الوظائف والفرص للأشخاص غير الجديرين بها، يفرز مثل هذه الظواهر السلبية، إذ لا يمكن لأحد أن يزعم بأن الأمة العربية قد عقمت وأنه لا توجد مواهب حقيقية في كل المجالات، غير أن هذه المواهب لا تجد من يؤمن بها ويؤازرها ويمنحها الفرصة.

إنها آفة الوساطة والمحسوبية والعلاقات الشخصية، والحقيقة أن جيلي من الإعلاميين لم يكابدوا هذه الآفة، فقد كنا نحظى بالفرص كاملةً، وكان المناخ العام مؤمناً بالموهبة والعمل والاجتهاد ليس إلا.
 
حول التنافس بين الفضائيات يقول: كان ينبغي أن تؤدي السماوات المفتوحة وتعدد الخيارات إلى الارتقاء بالمستوى النوعي للرسالة الإعلامية، غير أن الغالبية العظمى ركنت إلى الاستسهال والاستنساخ وحشو ساعات البث بالغث لا السمين.
ويتابع: في مرحلة ما، لم يكن أمام المشاهد إلا قناتا أبوظبي ودبي، وخلال الصيف وحينما ترتفع درجة الرطوبة، مما يؤدي إلى تحسين قدرة الهوائيات على التقاط إشارات البث، كنا نشاهد تلفزيونات قطر والبحرين وعمان، وعليه كان من الممكن التحكم في نوعية الرسالة التي نقدمها للمتلقي، أما الآن فلم يعد بوسع أية وسيلة أن تمارس الحجر.

 
ولم يعد التنافس مقصوراً على الفضائيات، فقد دخلت شبكة الإنترنت الساحة، وعبر المواقع التفاعلية، يستطيع المتلقي أن يشاهد ما يروق له من مواد فيلمية، أو يقرأ الأخبار والمقالات.


نجوم الإمارات
ويقول: شهدت المرحلة السابقة، على الرغم من أن تجربتا الإعلامية كانت في مهدها، بزوغ نجوم إعلامية مواطنة، تجاوزت شهرتها الحدود، وأصبحت معروفة على مستوى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وأيضاً بلاد الشام ومصر، وهذه مفارقة لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء تحلي الرعيل الأول من الإعلاميين المواطنين بالرغبة في العطاء والعمل وحرصهم على الاجتهاد وتقديم أفضل ما لديهم.


ويتابع: لم يكن أبناء جيلي من الإعلاميين المواطنين، يسعون إلى المحاكاة أو التقليد، وكان لكل منا شخصيته المميزة، واسلوبه المتفرد، وكنا شديدي الحرص على أن نمثل وطننا تمثيلاً صادقاً، ومن ثم ترسخ ما يمكن أن نطلق عليه: الشخصية المستقلة للإعلام الإماراتي المرئي، أما الآن وعلى الرغم من الإمكانات التقنية الهائلة، والميزانيات الفلكية التي تنفقها قنواتنا الفضائية، إلا أنني لا أكاد أجد إعلاميا مواطناً ذا كاريزما وشخصية مستقلة.

ويضيف: يقع الإعلاميون الجدد في خطيئة كبرى، ألا وهي البحث عن الشهرة السريعة، وتقليد بعض الإعلاميين الناجحين في البلدان العربية الشقيقة، وهذا الأمر يمنح بعضهم شهرة سريعة لكنها أشبه ما تكون بفقاعات الصابون، تتلاشى بأسرع مما نتخيل.

ويقول: كان أبناء جيلي يحرصون كل الحرص على سلامة اللغة العربية، وكنا ننفق الساعات الطويلة في التدريب على الإلقاء وعلى تحسين مخارج ألفاظنا، وكان سقوط أحدنا في خطأ لغوي، يتعلق بنطق كلمة ما وهو ما يسمى اللحن بكسر اللام، مدعاة للخزي والعار، أما الآن فإني أرى مقدمي البرامج والنشرات، لا يمتلكون ناصية اللغة، ويخطئون أخطاء فاحشة فجة، وهذا يطرح سؤالا حول نوعية التدريب الذي تلقوه قبل أن يخرجوا على المشاهد.

رفاق الدرب
ويعود حمد علي بالذاكرة إلى جيله من مقدمي النشرات قائلاً: شرفت بأن زاملت علي عبيد وأحمد سالم الذي أعتبره أجمل صوت قدم النشرة والبرامج الوثائقية في الوطن العربي، وتتلمذنا على أيدي مجموعة من أبرز وأكفأ الإعلاميين العرب، الذين أخلصوا في حبهم للإمارات، وآمنوا بسعينا آنذاك لأن نوجد لنا مكانة لائقة في منظومة الإعلام العربي.

ويتذكر موقفاً لطيفاً، وقع إبان الثورة الإيرانية، فقد حدث وأن زار الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل إيران بعيد الثورة مباشرة، وفي طريق العودة إلى القاهرة، هبطت طائرته في مطار أبوظبي، فطلب منه مدير التلفزيون، التوجه إلى المطار لإجراء حديث مع "الأستاذ"، فرفض على الفور بذريعة أنه غير مؤهل لمحاورة هذا المفكر الكبير، لحداثة عهده وقلة خبرته آنذاك.

ويقول: أمام إصراري على الرفض، تقرر تكليف زميل آخر بالمهمة، وكان إعلامياً مبتدئاً ففرح بالمهمة، مع إعداد أسئلة لطرحها على المفكر الكبير، وكان السؤال الأول: ما رأيك في النهضة العمرانية التي تشهدها الدولة؟

ويقول حمد علي ضاحكاً: عندما طُرح هذا السؤال، أجاب هيكل إجابة موجزة قائلاً: أنا لم أبرح المطار، ولا أستطيع أن أدلي برأي في شيء لم أره، ولكني كنت في إيران، وهناك اندلعت ثورة أسقطت نظام الشاه، وعلى هذا الأساس فإن السؤال الذي كان يجب أن يطرح علي، هو ما تداعيات هذه الثورة على منطقة الخليج العربي؟

ورداً على هذا السؤال، ومضى الرجل يتحدث عن التداعيات محللاً متمكناً كعادته، ولما رأيت التسجيل أثناء المونتاج، وحينما تقرر حذف السؤال ومن ثم عدم ظهور الزميل على الإطلاق، حمدت الله كثيراً على أني اتخذت القرار الصائب.

وحول شكل الإعلام التلفزيوني في رمضان، يرى حمد علي أن الشهر الفضيل افتقر روحه وسماته التي كانت تميزه، وأصبحت الفضائيات تزدحم فقط بالمسلسلات والأعمال الدرامية التي تقدم الغث الذي لا يتماشى مع روح رمضان، واختفت أو تراجعت البرامج الدينية والثقافية، وأصبحت برامج المسابقات نسخاً مستنسخة من البرامج الأجنبية، وفي خضم هذا الازدحام غرق المشاهد ولم يجد مرفأ يأوي إليه. وأصيب بالتخمة وعسر الهضم.
 

نريد إعلاماً يماثلنا ويعبر عنا
يرى حمد علي أن الإنفاق على الإعلام أصبح غير رشيد، فهناك برامج ينفق عليها الملايين، ولا تحقق أي عوائد.
 

ويقول: إن الإعلام المرئي في الإمارات أصبح في حاجة إلى إعادة تقييم، لأنه لم يعد قادراً على نقل الخصوصية الثقافية والحضارية للمجتمع، وهذا الأمر يقتضي بالضرورة الاهتمام بتدريب الكوادر المواطنة الشابة، وإتاحة الفرصة لها كي تؤدي دورها في خدمة بلدها ومجتمعها.

ويتابع: إن توطين الإعلام يمثل حجر أساس في تطويره وجعله أقرب وأكثر اتصالا بواقعنا، وحينما أتحدث عن التوطين، فإنني لا أقصد توطين الكوادر بقدر ما أقصد توطين الرسالة الإعلامية والمضمون والمحتوى الذي نقدمه للمتلقي، مشيراً إلى أن تلفزيونات الدولة لا تقدم "تقريبا" برامج للتعريف بالتراث والثقافة الشعبية، وما يتم تقديمه حالياً من برامج يستخدم أساليب جافة لا تحقق عنصري الجذب والتشويق، مما يدفعني إلى أن أقول: نحن في حاجة ماسة إلى إعلام يشبهنا.

ويقول: إن الحديث عن ترسيخ الهوية الوطنية لا يعني رفض الكفاءات العربية، فأنا ممن تتلمذوا على أيادي عدد كبير من الإعلاميين العرب، الذين وفدوا إلى أرض الدولة، وقدموا خبراتهم بتفان وإخلاص، ولكني أرغب في إعلام يعبر عني ولا يجافي واقع وطني.

مذيعون لا يعرفون العربية
تعتبر أخطاء النطق من أكثر العيوب التي تستفز حمد علي حينما يشاهد القنوات الفضائية، وهي حسب تعبيره، قد أصبحت تنتشر مثل النار في الهشيم إلى درجة أنه قلما يوجد قارئ نشرة لا "يلحن"، ولا يوجد مذيع متمكن من اللغة العربية كما ينبغي.

ويقول حمد علي: على أيامنا كان سقوط قارئ النشرة فيما يسمى لغوياً باللِحن، أي عدم نطق الكلمة على النحو الصحيح، بمثابة جريمة نكراء وسبة يظل ملاحقاً بالسخرية والنكات بسببها، وكان المخطئ يتحاشى الجلوس مع أقرانه من المذيعين لأنهم بالتعبير الدارج "سيسلخونه" من فرط ما سيسخرون منه.

ويطالب بضرورة أن يخضع المذيعون الجدد، إلى دورات تدريبية لتعلم أسس النطق السليم، وذلك تحت إشراف المخضرمين من مقدمي النشرات والمذيعين. ويضيف: أنا أنتمي إلى جيل تعلم النطق الصحيح في الكتاتيب وعلى يدي المطاوعة، وما من شك في أن القرآن الكريم، يؤدي إلى أن يكون اللسان مستقيماً صحيحاً، معرباً عن أسفه لأن التعليم في الوقت الراهن لم يعد يولي تعليم الناشئة حسن الإلقاء وأن تكون مخارج ألفاظهم مضبوطة، الكثير من الاهتمام.

ويؤكد أنه حرص على تحفيظ أبنائه القرآن الكريم في طفولتهم المبكرة، مما أدى إلى أن يحسنوا النطق على الرغم من أنهم درسوا في مدارس اللغات.

غربة في الوطن
جملة موجعة حادة، استخدمها حمد علي حينما تطرق في حديثه إلى قدامى الإعلاميين والرعيل الأول من المواطنين الذين مارسوا الإعلام في بدايات تأسيس الدولة، حينما قال: نحن نشعر بالغربة في وطننا. فهناك إعلاميون إماراتيون أكفاء ولكن أحداً لا يعيرهم اهتماماً، وهم على أتم استعداد لأن يقدموا خبراتهم ورؤاهم من دون مقابل، والمؤسف حقاً أن معظمهم مازالوا قادرين على العطاء.

هؤلاء الإعلاميون ممن حملوا على عاتقهم أمانة الإعلام الإماراتي لا يبتغون مالا ولا يطمعون إلى مناصب، وإنما يريدون أن يشعروا بأنهم ليسوا مهملين كأنهم لم يكونوا.

ومؤخراً... أجرى حمد علي مجموعة اتصالات بعدد من قدامى الإعلاميين الذين يسميهم: رفاق الدرب، بهدف بحث إمكانية إشهار جمعية نفع عام تحت اسم: جمعية الإعلاميين الإماراتيين. الازدحام الدرامي والمسلسلات التي لا قيمة لها، هي سيدة الشاشات التلفزيونية في الشهر الفضيل، فأين البرامج الثقافية والدينية والفكرية والتراثية التي تستهدف تعريف النشء بتراث وعادات الأجداد والآباء وحياتهم في رمضان.

لدينا في الإمارات عادات اقترنت بالشهر الفضيل، وقد اندثرت لأن الإعلام لا يلقي الضوء عليها، ولدينا فنون خاصة بنا، منها فن "المالد" الذي يماثل الإنشاد والتواشيح الدينية.