بلاغة

المبنيّ للمجهول وأسباب الجهل

ت + ت - الحجم الطبيعي

هكذا يُعبِّر عنه الناس اليوم، أما أهل اللغة العربية قديماً فقد عبرّوا عنه بعبارات مختلفة، فالكوفيون يسمونه: (المبني لما لم يُسَمَّ فاعله)، والبصريون يسمونه: (المبني للمفعول). وهذان التعبيران خيرٌ من التعبير الدارج؛ لأن أسباب حذف الفاعل وإقامة المفعول أو ما ينوب عنه مقامه، لا تقف عند حدِّ الجهالة بالفاعل، بل يتعدى ذلك لأغراض بلاغية كثيرة.

وقد قسَّم النحويون الأفعال من حيث بنائها للمجهول من عدمه إلى أقسام ثلاثة، قسم لا خلاف في جواز بنائه للمفعول، وهو الفعل المتصرف التام، نحو (ضرب- يضرب). وقسم لا يجوز بناؤه للمفعول باتفاق، وهي الأفعال الجامدة نحو (نِعْم- بِئْس)، وكذلك الأفعال المتعلقة بالطباع نحو (كَرُم- فَقُه) والأفعال الدالة على الألوان نحو (احمَرَّ- اصفَرَّ)، والأفعال الدلالة على العيوب نحو (اعورَّ). وقسم فيه خلاف بين النحويين وهو كان وأخواتها المتصرفة، فمنهم من أجاز أن تقول: (كان- كِينَ) ومنهم من منع ذلك.

كما فصَّل العلماء في صياغة الفعل بعد حذف الفاعل، وفصلوا في أحوال الفعل الماضي والمضارع صحيحاً كان أو معتلاً، مجرداً كان أو مزيداً.

ولسنا هنا بصدد تفصيل تلك القواعد وبيانها، وإنما أردنا الإشارة إليها لتكون بمثابة المدخل لموضوع أهم، وهو أسباب حذف الفاعل وبناء الفعل للمفعول.

وقد ذكر العلماء جملة من الأسباب منها: (عدم تخصيص الفاعل)، ومثاله قول الله تعالى: (وكذلك زُيِّن لفرعون سوء عمله وصُدَّ عن السبيل) (غافر37) فالفاعل للفعل (زُين صُدَّ) لم يُعيَّن هنا، فقد يكون الفاعل نفس فرعون الأمارة بالسوء أو الشيطان أو الملأ من قومه، وقد يكون كل ذلك صحيحاً، فلا إشكال من اجتماع هذه الأمور، ولعل ذلك هو السرُّ في بناء الفعل للمفعول.

ومن الأسباب أيضاً مراعاة غرض السامع، فلو كان السامع لا غرض له في ذكر الفاعل، أو أن الفاعل لا يعنيه في شيء، فلا حاجة لذكره. ومثاله قوله تعالى حكاية لكلام إخوة يوسف عليه السلام: (قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا..) (يوسف65)، فالمهم عندهم أن البضاعة رُدَّت إليهم، ولا يهمهم من ردَّها وكيف ردَّها، ولو كان السياق يتطلب معرفة الفاعل لصُرِّحَ به. ومثله قوله تعالى: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها..) (النساء86)، فالمقصود من الآية هو بيان مشروعية ردِّ السلام على من بدأنا به، فحُذِف فاعل (حُييتم) وبُنِي الفعل للمجهول؛ لأن الغرض الذي سيق من أجله الكلام يقتضي ذلك، ولو عُـيِّن لاقتصر على شخص معين أو طائفة معينة أو جنس معين.

وقد يكون الغرض من حذف الفاعل وبناء الفعل للمفعول تحقيرُ الفاعل وذلك بإهمال ذكره، وجاء ذلك في قوله تعالى مخاطباً رسله يوم القيامة: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم..) (المائدة 109) أي بأي شيء أجابت أممكم وأقوامكم لما أمرتموهم بعبادة الله وحده. إلا أن فاعل أَجَبتُم حُذِف وبُنِي الفعل للمفعول لأنه لا يستحق الذكر تحقيراً لشأنه. قال الألوسي في تفسيره: (وفي العدول عن ماذا أجاب أممكم ما لا يخفى من الإنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة السخط والغيط عليهم، والسؤال لتوبيخ أولئك أيضاً وإلا فهو سبحانه علام الغيوب).

وقد يأتي الفعل مبنياً للمفعول في موضع، ومبنياً للمعلوم في موضع آخر رغم اتفاق السياق، ومن ذلك قوله تعالى: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبِعَ على قلوبهم فهم لا يفقهون) (التوبة 87)، وجاء بعدها بقليل قوله تعالى: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطَبَعَ الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) (التوبة 93). (فما السر في بناء الفعل »طبع« للمفعول في الموضع الأول، وبنائه للمعلوم في الموضع الثاني؟!).

حاول بعض العلماء الوقوف عند سرِّ هذا البناء، فرجع لسياق الآيات، فلاحظ أن الآية الأولى بُنِي فيها الفعل للمفعول ليناسب الآية التي قبلها، وفيها قوله تعالى: (وإذا أُنزلِت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين)، فقد بُنِي الفعل (أُنزلِت) للمفعول، فناسب بناء الفعل طبع فالآية التي تليها للمفعول أيضاً. أما الآية الثانية فلم يقع قبلها فعل مبني للمفعول، فناسب ذلك التصريح بالفاعل وبناء الفعل للمعلوم.

وذهب الطاهر بن عاشور إلى القول إن الطبع الأول يختلف عن الطبع الثاني، فالطبع الأول طبع جبلوا عليه، أما الثاني فهو طبع أنشأه الله في قلوبهم لغضبه عليهم، فحرمهم النجاة من الطبع الأصلي وزادهم عمىً.

وذهب بعضهم إلى القول إنَّ الآية الأولى لم يسبقها تفصيل أحوال الكفار وبيان سبب تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، فناسب ذلك حذف الفاعل وبناء الفعل للمفعول. أمَّا الآية الثانية فجاء فيها التأصيل والتفصيل وبيان أسباب تخلف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناسب ذلك التصريح بالفاعل وبناء الفعل للمعلوم.

ومهما كان السرُّ في هذه الآية أو غيرها، فالمهم هنا أنه يمكننا أن نقول - بعد هذا العرض المختصر لبعض أوجه البلاغة القرآنية المتعلقة بالفعل المبني للمفعول- إننا أصبحنا نملك مفتاحاً من مفاتيح التدبر والتفكر، هذا المفتاح يعيننا بإذن الله عزَّ وجل على فهم القرآن واكتشاف أسرار الدقة في البيان.

Email