من كلام الخالق عز وجل وبلاغة قوله في الذكر الحكيم؛ القرآن الكريم، نغوص في تفاصيل الحروف ونبحر في كمال المعاني، لنرسم لقرائنا الأعزاء أجمل الصور الكتابية على هيئة أسرار ربانية بديعة. هذه الأسرار التي نستشفها من آيات قرآنية، تجسد بجمال تعابيرها واكتمال معانيها، كل ما لا يستطيعه بشر ولا يقوى عليه مخلوق.

فيها تجد الكلمة الأوفى والصورة الأنقى والإعجاز الأبقى، فيها أيضاً القول الفصل لكلام الخالق ذي الكمال، فليس أبلغ من كلام الله عز وجل قولاً. هو أصدق الحديث كلاً وجزءاً، وهو أوفى فاتحة وأكمل خاتمة، إنه القرآن الكريم الكتاب المحفوظ الذي لا ينقص تلاوة وإبحاراً واستزادة في العلم والنور؛ ولقارئه السرور.

«بديع الأسرار» محطة رمضانية ارتضيناها لكم من أنوارنا «أنوار رمضان»، لنمتع العقول ونقنع القلوب، بكلمات ربانية تتجلى فيها كل المسميات الحصرية؛ فيها الجمال والكمال والمثال، والإيحاء والوفاء والبناء؛ والتمام ختام.

إن الدارس للنحو العربي لا بد أن يتعرض لمسائلَ تتعلق بالتقديم والتأخير، كتقدم الخبر على المبتدأ، وتقدم المفعول على الفاعل. إلا أن هذه الظاهرة اللغوية ليست متعلقة بالدرس النحوي فحسب، بل هي متعلقة بالبلاغة بشكل أكبر، ذلك أن للتقديم والتأخير أغراضاً بلاغية متعلقة بالسياق ومقتضياته.

ومثال ذلك في القرآن قول الله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم) (الأنعام: 151)، وقوله تعالى: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم) (الإسراء: 31)، ففي الأنعام تقدم الوعد برزق الآباء قبل الأولاد وفي الإسراء تقدم الوعد برزق الأولاد قبل الآباء، فما السر في ذلك؟! للإجابة عن هذا السؤال يَـحسُن أن نقدم بمقدمة يسيرة عن التقديم والتأخير في اللغة العربية.

 إن التقديم والتأخير ظاهرة لغوية تنقسم إلى قسمين، الأول: تقديم اللفظ على عامله كتقديم الخبر على المبتدأ ومثاله قوله تعالى: (له الملك)، أو تقديم المفعول به على الفعل والفاعل كقوله تعالى: (إياك نعبد) وله أسباب عدة أهمها الحصر والاختصاص فالملك خاص بالله عزَّ وجل، وكذلك العبادة لا تكون إلا لله عزَّ وجل، والقسم الثاني: تقديم اللفظ وتأخيره على غير عامل، وذلك لأسباب عدة يقتضيها المقام وسياق القول، والحاصل أن التقديم إنما يكون للعناية والاهتمام. فما كانت به عنايتك أكبر قدمته في الكلام. والقرآن الكريم أعلى مثل في ذلك، فإنا نراه يقدم لفظة مرة ويؤخرها مرة أخرى على حسب المقام، فنراه مثلاً يقدم السماء على الأرض ومرة يقدم الأرض على السماء ومرة يقدم الإنس على الجن ومرة يقدم الجن على الإنس ومرة يقدم الضر على النفع ومرة يقدم النفع على الضر كل ذلك بحسب ما يقتضيه القول وسياق التعبير، وفي هاتين الآيتين قدم الرزق للآباء في الأنعام وأخر الأولاد، وفي الإسراء قدم الأولاد على الآباء.

والسبب في ذلك أن آية الأنعام جاء فيها النهي عن قتل الأولاد بسبب الفقر بدليل قوله تعالى (من إملاق) فالفقر واقع على الآباء لذلك اقتضى السياق أن يكون الوعد للآباء بالزرق قبل الأولاد، أما السياق في آية الإسراء جاء فيه النهي عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر بدليل قوله تعالى: (خشية إملاق) الذي لم يقع عليهم بعد ولكنهم يخافونه بسبب كثرة الأولاد، فاقتضى السياق تقديم الوعد برزق الأولاد قبل رزق الآباء، وذلك من تمام بلاغة القرآن، وفي هذا المعنى قال أبو حيان في البحر المحيط: (وجاء التركيب هنا - أي في الأنعام- (نحن نرزقكم وإياهم) وفي الإسراء (نحن نرزقهم وإياكم)، فيمكن أن يكون ذلك من التفنن في الكلام.

ويمكن أن يقال في هذه الآية جاء (من إملاق) فظاهره حصول الإملاق للوالد لا توقعه وخشيته وإن كان واجداً للمال فبدأ أولاً بقوله: (نحن نرزقكم) خطاباً للآباء وتبشيراً لهم بزوال الإملاق وإحالة الرزق على الخلاَّق الرَّزاق، ثم عطف عليهم الأولاد، وأما في الإسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون وأن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإملاق والخشية منه فبُدئ فيه بقوله: (نحن نرزقهم) إخباراً بتكفله تعالى برزقهم، فلستم أنتم رازقيهم وعطف عليهم الآباء وصارت الآيتان مفيدتان معنيين، أحدهما: أن الآباء نـُهوا عن قتل الأولاد مع وجود إملاقهم، والآخر: أنهم نـُهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين لتوقع الإملاق وخشيته، وحمل الآيتين على ما يفيد معنيين أولى من التأكيد) انتهى كلامه.

ويمكننا أن نضرب مثالاً آخر للتقديم والتأخير في القرآن الكريم زيادة في البيان وترسيخاً لهذا المعنى في الأذهان، وذلك في قوله تعالى: (ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم) (آل عمران: 129)، وقوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير) (المائدة: 40).

ففي آل عمران قدم المغفرة على العذاب، وفي المائدة قدم العذاب على المغفرة، فما السر في ذلك؟!

الجواب أن المتأمل لسياق الآية في آل عمران يجدها مسبوقة بقوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) (آل عمران: 128)، ومعنى الآية أن النبي عليه الصلاة والسلام لما قـُتل عمه حمزة رضي الله عنه في أُحُد ومُثِل به، أراد أن يمثل بهم كما فعلوا بعمه، فأخبره الله تعالى أن أمرهم لله عزَّ وجل، فإما أن يغفر لهم وإما أن يعذبهم، وترغيباً لهم في التوبة ذُكرت المغفرة قبل العذاب وختمت الآية بقوله تعالى: (والله غفور رحيم)، أما الآية في المائدة فقد سبقت بقول الله عزَّ وجل: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم) (المائدة: 38-39)، والمراد تخويف السارق والسارقة من هذه الكبيرة، مع الوعد بالتوبة إن رجعوا وتابوا عن ذلك، وناسب ذلك أن يتقدم ذكر العذاب على المغفرة تخويفاً للناس وزجراً لهم عن ارتكاب هذا الذنب العظيم، لذلك ختمت الآية بقوله تعالى: (والله على كل شيء قدير)، أي قادرٌ على العقوبة وقادرٌ على المغفرة، والله أعلم.