جمع التكسير بين القلة والكثرة في القرآن

ت + ت - الحجم الطبيعي

من كلام الخالق عز وجل وبلاغة قوله في الذكر الحكيم؛ القرآن الكريم، نغوص في تفاصيل الحروف ونبحر في كمال المعاني، لنرسم لقرائنا الأعزاء أجمل الصور الكتابية على هيئة أسرار ربانية بديعة. هذه الأسرار التي نستشفها من آيات قرآنية، تجسد بجمال تعابيرها واكتمال معانيها، كل ما لا يستطيعه بشر ولا يقوى عليه مخلوق. فيها تجد الكلمة الأوفى والصورة الأنقى والإعجاز الأبقى، فيها أيضاً القول الفصل لكلام الخالق ذي الكمال، فليس أبلغ من كلام الله عز وجل قولاً. هو أصدق الحديث كلاً وجزءاً، وهو أوفى فاتحة وأكمل خاتمة، إنه القرآن الكريم الكتاب المحفوظ الذي لا ينقص تلاوة وإبحاراً واستزادة في العلم والنور؛ ولقارئه السرور.

»بديع الأسرار« محطة رمضانية ارتضيناها لكم من أنوارنا »أنوار رمضان«، لنمتع العقول ونقنع القلوب، بكلمات ربانية تتجلى فيها كل المسميات الحصرية؛ فيها الجمال والكمال والمثال، والإيحاء والوفاء والبناء؛ والتمام ختام.

 

نقرأ في سورة الإسراء قول الله تعالى: (ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً) (الإسراء: 25)، ونقرأ في سورة هود قوله تعالى حكاية عن نبي الله هود عليه الصلاة والسلام: (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً الله أعلم بما في أنفسهم إني إذاً لمن الظالمين) (هود: 31)، فنلاحظ اختلاف نوع الجمع في لفظ النفس بين الآيتين، ففي الإسراء جاء الجمع بلفظ (النفوس) وفي سورة هود جاء الجمع بلفظ الأنفس، فما السرُّ في الاختلاف بين هذين الموضعين؟!

للإجابة على هذا السؤال لا بد أن نعلم أن للعرب طرائق مختلفة في الجمع، والذي يعنينا منها هنا ما يتعلق بجمع التكسير، الذي ينقسم إلى قسمين، جموع القلة وجموع الكثرة.

أما النوع الأول - أعني جموع القلة - فيدل حقيقته على ثلاثة فما فوقها إلى العشرة، ولهذا النوع من الجمع أوزان خاصة، وهي (أفعِلة - وأفعُلٌ فِعْلَة - أفْعَالٌ) جمعها ابن مالك في قوله:

أفعِلة أفعُلٌ ثم فِعْلَة

ثـمـَّت أفْعَالٌ جموع قله

والأمثلة على تلك الأوزان كالآتي (أودية - أعين - فتية - أنهار). أمَّا النوع الثاني - أعني جموع الكثرة - فيدل حقيقتها على ما فوق العشرة، ولهذا النوع من الجمع أوزان كثيرة بعضها سماعي يحفظ ولا يقاس عليه، وبعضها قياسي يخضع لقاعدة عامة، ويمكننا أن نحفظ جموع القلة، ونعتبر ما عداها من جموع التكسير جموع كثرة.

فإذا تقرر هذا علمنا السر في استعمال كلمة (الأنفس) في سورة هود، وكلمة (النفوس) في سورة الإسراء، ذلك أن (الأنفس) من جموع القلة لأنه جاء على وزن أفعل، أما (النفوس) فجاءت على وزن فُعُول، وهذا الوزن من أوزان جموع الكثرة.

والأنفس في سورة هود عليه الصلاة والسلام كانت تتعلق بالقلة الذين آمنوا معه، والذين كانوا محل ازدراء قومه، فناسب المقام اختيار وزن من أوزان جموع القلة. أما النفوس في سورة الإسراء فكانت تتعلق بنفوس الناس أجمعين، فناسب ذلك المقام اختيار وزن من أوزان جموع الكثرة.

ومن الأمثلة البديعة على هذا النوع من الاستعمال قوله تعالى: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم) (لقمان: 27) فجاء التعبير بلفظ (الأبحر) وهو من جموع القلة، ولم يأتِ بلفظ (البحار) وهو من جموع الكثرة، لا ليناسب العدد المذكور وهو سبعة فحسب، بل للتحقير من قدر تلك الأبحر في جنب كلمات الله التي لا تنفد.

وأعتقد أن من المناسب أن نختم بقول الله تعالى: (إن إبراهيم كان أُمّة قانتاً لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم) (النحل: 120-121)، وقوله تعالى في سورة لقمان: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة..) (لقمان: 20)، والملاحظ في الآيات أن لفظ النعمة جمع في سورة النحل على (أنعم)، وهو من جموع القلة، وفي سورة لقمان على (نِعَم) وهو من جموع الكثرة، والسر في ذلك ذكره الدكتور فاضل السامرائي فقال: »فجمع النعمة في آية النحل جمع قلة (أنعم)، وجمعها في لقمان جمع كثرة (نِعَم)، ..

وذلك أن نعم الله لا تحصى، فلا يطيق الإنسان شكرها جميعها، ولكن قد يشكر قسماً منها؛ ولذلك لما ذكر إبراهيم وأثنى عليه قال: إنه شاكر لأنعمه، ولم يقل: لنعمه؛ لأن شكر النعم ليس في مقدور أحد، بل إن إحصاءها ليس في مقدور أحد فكيف بشكرها؟! قال تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم). أما الآية الثانية فهي في مقام تعداد نعمه وفضله على الناس فقال: (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) فذكرها بزنة جمع الكثرة) انتهى كلامه.

وما علينا إلا تتبع هذه الجموع، ومن ثَـمَّ نبحث عن وجه البلاغة في اختيار هذا النوع في السياق الذي وردت فيه، والله أعلم.

 

Email