تأملات في أسماء الله الحسنى

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من كلام الخالق عز وجل وبلاغة قوله في الذكر الحكيم؛ القرآن الكريم، نغوص في تفاصيل الحروف ونبحر في كمال المعاني، لنرسم لقرائنا الأعزاء أجمل الصور الكتابية على هيئة أسرار ربانية بديعة. هذه الأسرار التي نستشفها من آيات قرآنية، تجسد بجمال تعابيرها واكتمال معانيها، كل ما لا يستطيعه بشر ولا يقوى عليه مخلوق.

فيها تجد الكلمة الأوفى والصورة الأنقى والإعجاز الأبقى، فيها أيضاً القول الفصل لكلام الخالق ذي الكمال، فليس أبلغ من كلام الله عز وجل قولاً. هو أصدق الحديث كلاً وجزءاً، وهو أوفى فاتحة وأكمل خاتمة، إنه القرآن الكريم الكتاب المحفوظ الذي لا ينقص تلاوة وإبحاراً واستزادة في العلم والنور؛ ولقارئه السرور.

«بديع الأسرار» محطة رمضانية ارتضيناها لكم من أنوارنا «أنوار رمضان»، لنمتع العقول ونقنع القلوب، بكلمات ربانية تتجلى فيها كل المسميات الحصرية؛ فيها الجمال والكمال والمثال، والإيحاء والوفاء والبناء؛ والتمام ختام.

 ذكر ابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير» أنَّ الأصمعي قال: قرأت قول الله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيدِيَهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله) وختمتها سهواً بقولي: والله غفور رحيم، وكان إلى جنبي أعرابي فقال: كلام من هذا؟! قلت: كلام الله. قال: أعد، فأعدت: والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلام الله، فتنبهت فقلت: (والله عزيز حكيم). فقال: أصبت، هذا كلام الله. فقلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا، عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.

البلاغة

هذا القصة تلفت انتباهنا إلى مبحث عظيم من مباحث البلاغة في القرآن، هذا المبحث يتعلق بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى. هذه الأسماء التي جاءت مناسبة للسياق الذي خُتمت به. وقد اعتنى غير واحد من المفسرين - قديماً وحديثاً- ببيان وجه المناسبة بين أسماء الله الحسنى والسياق الذي ختمت به.

قواعد

ومن المعاصرين الأوائل الذين أثاروا مسألة ختم الآيات بأسماء الله الحسنى وعلاقتها بالأحكام المذكورة في الآية، واعتبروها من القواعد النافعة في تفسير كلام الله عزَّ وجل، الشيخ عبدالرحمن السعدي، رحمه الله تعالى، فقد قال في كتابه «القواعد الحسان بتفسير القرآن»: (ختم الآيات بأسماء الله الحسنى يدل على أن الحكم المذكور له تعلق بذلك الاسم الكريم. وهذه القاعدة لطيفة نافعة، عليك بتتبعها في جميع الآيات المختومة بها، تجدها في غاية المناسبة..

وتدلك على أنَّ الشرع والأمر والخلق كله صادر عن أسمائه وصفاته ومرتبط بها، وهذا باب عظيم من معرفة الله ومعرفة أحكامه، وهو من أجل المعارف وأشرف العلوم).

ولو تأملت تلك الأسماء الحسنى التي ختم الله عزَّ وجل بها كثيراً من الآيات لوجدت أن مناسبتها لسياق الآية واضح لا يحتاج إلى تأويل وتفسير، فسياق المغفرة والرحمة يُـختم بصفات الرحمة والمغفرة، وسياق العقوبة والعذاب يُـختم بأسماء العزة والقدرة والقهر.

تأمل

وهذا لا يعني أن بعض تلك الأسماء الحسنى التي خُتم بها بعض الآيات لا يحتاج إلى تدبر وتأمل لمعرفة المناسبة بينها وبين سياق الآية ومضمونها، وإليك بعض هذه الأمثلة.

المثال الأول في قوله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم عليه السلام: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (المائدة 118). وقد يقول قائل إنَّ سياق الآية يناسبه ختمها بالرحمة والمغفرة فما السر في ختمها بصفتي العزة والحكمة؟!

اختلف العلماء في الوقت الذي قال فيه عيسى ذلك، فمنهم من قال: إنَّه قال ذلك لـمَّا رفعه الله إلى السماء الدنيا، ومنهم من قال: إنَّه قال ذلك في عرصات يوم القيامة. وعلى القول الأول فلا إشكال في الآية؛ لأن القوم ما زالوا أحياء يرزقون، فمن أقام منهم على الكفر حتى مات عذبه الله، فهو العزيز القادر على تعذيبه، وهو الحكيم الذي عذبه بعدله. أما من تاب قبل موته أدخله الله الجنة بفضله، فهو العزيز القادر على تنعيمه، وهو الحكيم الذي وفقه للتوبة لحكمة يعلمها.

المغفرة

ومن قال إنَّ عيسى عليه السلام قال هذا في عرصات يوم القيامة، بيَّن أن هذا المقام لا يناسب المغفرة والرحمة قطعاً؛ لأن الكافر لا يستحق المغفرة والرحمة إذا مات على الكفر، قال تعالى: (إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). وتعليق المغفرة بالمشيئة لا يقتضي وقوعها، إنما المقصود تفويض الأمر إلى الله عزَّ وجل. وقدَّر بعضهم كلام عيسى عليه السلام فقال: إن تعذبهم بموتهم على الكفر فبعزتك وحكمتك، وإن تغفر لهم وتوفقهم للإيمان فبعدلك وفضلك.

حوار

والقول الثاني هو الأرجح والله أعلم، فقد جاء في الآيات السابقة ما يدل أن هذا الحوار بين الله عزَّ وجل ونبي الله عيسى عليه السلام يكون يوم القيامة، قال تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب) (المائدة: 109).

المثال الثاني: في قول الله عزَّ وجل حكاية عن نوح عليه السلام: (ونادى نوح ربه فقال رب إنَّ ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) (هود: 45). وقد يقول قائل إنَّ سياق الآية يناسبه أن يقال: وأنت أرحم الراحمين؛ لأنه سياق استرحامٍ واستعطاف.

الوعد

والجواب أن نوحاً عليه السلام تمسك بوعد الله عزَّ وجل أن ينجي أهله من الطوفان، فلما رأى أن ابنه كان من المغرقين نادى ربه فقال: (رب إن ابني من أهلي) أي ممن وعدتني بنجاتهم، ثم قال: (وإن وعدك الحق) أي أنت لا تخلف الميعاد، فلا بد أن يكون في غرقه حكمة لا يعلمها، لذا ختم نداءه بقوله: (وأنت أحكم الحاكمين) أي أن هذا الأمر ما وقع إلا لحكمة تعلمها يا رب العالمين.

وبعد هذا البيان ما بقي لنا إلا أن نقرأ القرآن، ونتأمل في أسماء الله الحسنى التي ختمت بها أغلب سور القرآن، ونحاول أن نقف على وجه المناسبة بينها وبين سياق تلك الآيات التي ختمت بها. ولا شك أن هذا مما يزيد في الإيمان ويعين على تدبر القرآن.

نسأل الله عزَّ وجل أن يفقهنا في الدين ويعلمنا التأويل، إنه على ذلك قدير إنه نعم المولى ونعم النصير.

Email