صفعة.. تبدّد الحقد والكراهية

ت + ت - الحجم الطبيعي

ثمة مواقف كثيرة صعبة يتعرض لها الإنسان، ومن أكثرها صعوبة تلك المواقف التي يفقد فيها المرء بعض أحبته، أو أشياء عزيزة عليه؛ ومثل هذه المواقف تشكل بالعادة نقطة فاصلة في حياة البشر، تفجر في أنفسهم الغضب، وتجعلهم كتلة من الطاقة السوداء الكارهة للحياة والناس.

وفي الواقع، هناك الكثيرون ممن لا يستطيعون أن يغفروا لمن أخطأ بحقهم، أو أن يتسامى، ويتعالى على كل الجراح ليعفو ويسامح. وخصوصاً إن كان الفعل يتعلق بشقيق أو ابن أو قريب أو عزيز، ولا سيما إن كان ذلك جرماً يعاقب عليه القانون، وتنص الشريعة على القصاص ممن يرتكبه.

هنا، في مثل هذا الموقف قصة واقعية حدثت مع أم مسلمة، عاشت بعد مقتل ابنها ناقمة على القاتل، تصر على إيقاع القصاص العادل به، ولا تتصور أنه يمكن لأحد أن ينتظر منها أن تعفو عن قاتل فلذة كبدها، لأي سبب كان.

ولكنها صفحت عن قاتل ابنها، في لحظة حرجة.

عاشت هذه الأم مع مشاعر الغضب منذ مقتل ابنها الشاب عبدالله، البالغ ثمانية عشر عاماً، في العام 2007. ولم يكن يهدئها شيء سوى قناعتها بأن القاتل سيقتل، وينال جزاءه العادل.

ويمكن تخيل كم مرت تلك السنوات على تلك الأم، «أم عبدالله»، صعبة، فالعيش مع قلب ملئ بالغضب والأحزان ليس بالأمر الهين؛ كما ليس بالهين على امرأة، وهي أم، أن تقف بإصرار مطالبة بالقصاص من القاتل، الذي هو أيضاً شاب، له أم، هي الأخرى مكلومة وثكلى تعيش كل لحظة بهلع وذعر، متوقعة أن يتم ايقاع الحكم بابنها.

في أبريل عام 2014 أدانت المحكمة القاتل بلال في قتل الشاب عبد الله، وقد حددت موعداً لتنفيذ حكم الإعدام شنقاً بحقه بعدما ثبتت عليه التهمة.

وفي اليوم الذي تقرر فيه تنفيذ القصاص بالشاب بلال كان للأم وزوجها تفكير آخر.

وفي هذا السياق تقول «أم عبدالله»: رأيت ولدي عبد الله قبل عشرة أيام من تنفيذ الحكم، وطلب مني العفو والتسامح، لكني بقيت مصرة. وقبل يومين من الحكم، رأيت عبد الله في منامي مرة أخرى، لكنه كان غاضباً، وأدار ظهره لي، ورفض أن يكلمني.

وبالفعل، بقيت «أم عبدالله» مصرة على ايقاع القصاص بالقاتل. ولم يكن شيء ليثنيها عن ذلك، ويجعلها تقبل بالعفو عنه. حتى رؤيتها لابنها القتيل في منامها يطلب منها أن تصفح وتتسامح، لم تجعل موقفها أقل صلابة وتشدداً. الأمر الذي دعا زوجها يوم تنفيذ الحكم، يقول لها: «اليوم القرار لك»، فلم تتردد بإخباره أنها تريد لقاتل ابنها أن يشنق، وتريد أن تشهد ذلك بنفسها.

وظلت «أم عبدالله» مصرة على تنفيذ القصاص، ولم تنفع معها توسلات القاتل، الذي أعرضت عنه، ولم تصغ له، وأرادت أن ترى حبل المشنقة يلتف حول عنقه.

وفقد كل من كان يتأمل برأفة الأم، ورقة قلبها، كل أمل.

وفي اللحظة الحاسمة، وبعد أن التف الحبل حول عنق القاتل، وقبيل تلك اللحظة الرهيبة التي يتم فيها ركل الكرسي من تحت قدميه. اندفعت «أم عبدالله» وصعدت إلى منصة المشنقة. وقفت أمام القاتل المذعور، ووجهت له صفعة قوية على وجهه.

ثم انفجرت في البكاء، بينما هي تنادي على زوجها أن يقوم بإزالة الحبل عن عنق القاتل بنفسه.

كانت لحظة عصيبة، تم فيها فك رقبة إنسان استحق القصاص؛ لكن التسامح أنقذه من الموت ومن حبل المشنقة. ولكن التسامح لم ينقذ القاتل فقط، ولم يمنحه حياة جديدة وحسب. ولكنه أنقذ كذلك «أم عبدالله» من أن تواصل حياتها في الحقد والغضب الدائمين، مغلوبة لهما، لولا أنها سمحت للتسامح الإنساني بإنقاذها.

تقول أم «عبدالله» عن تلك اللحظة الحرجة، التي صعدت بها إلى منصة المشنقة وصفعت القاتل على وجهه: أحسست وكأن الدم بدأ يجري في عروقي، وغادرتني كل مشاعر الحقد والكراهية.

لقد حررها التسامح من مشاعر الكراهية والحقد؛ وأعاد لها كينونتها الإنسانية، وحماها من أن تعيش حياتها تتذكر ابنها القتيل يطلب منها في منامها أن تصفح وتسامح، وأنها لم تفعل.

وعلى الرغم من أن القاتل تحرر من حبل المشنقة، ومن الإعدام، إلا أنه لا يزال في السجن كونه مداناً قضائياً؛ فقد تم العفو عن حياته، ولكن يبقى جزاءه على جريمته حق بيد الدولة والجهاز القضائي.

وبالنسبة لـ«أم عبدالله»، فإنها شعرت لأول مرة، بعد صفحها عن القاتل، بالسلام منذ مقتل ابنها.

Email