قـهـوة.. على الحائط

ت + ت - الحجم الطبيعي

يكون التسامح في أحيان كثيرة في ملاحظة ظروف الناس وأوضاعهم الإنسانية، ومنها المعيشية؛ فالتسامح أحياناً هو في مواجهة حاجات الناس بطيب خاطر، ومساعدتهم قدر الإمكان.

من هذا المفهوم، بالذات تروى حكاية مكانها مقهى في مدينة سياحية بأوروبا، ويقال إنه في مدينة البندقية الإيطالية الشهيرة؛ فالحكاية مهما كانت حكاية إلا أنها لا تخلو من المعنى والدلالة.

ولنبدأ بروايتها، كما راجت وتناقلها الناس ووسائل الإعلام، حيث تقول الحكاية التي يرويها شخص مجهول، فيقول:

«دخلتُ، مرة، إلى مقهى في البندقية بإيطاليا، وطلبت كوباً من القهوة وقطعة كيك. ولبثت في مكاني بالمقهى أتناول طلبي بهدوء. ومثل غيري ممن يزورون الأماكن الجديدة، رحت أتأمل المكان ورواده، الذي نقلت نظراتي بينهم، فكان جميعهم منشغلين بتناول طلباتهم مثلي، أو يتبادلون الأحاديث في حالة كانوا مجموعة. ولم يكن هناك أي شيء ملفت أو غير عادي في المكان، اللهم أنه يحظى بإقبال ملحوظ من الزبائن الذين كانوا يتوافدون دون انقطاع. وكان الهدوء في المقهى لا يلبث أن يقطعه بين دقيقة وأخرى صوت جرس معلق فوق الباب، وهو يُعلن عن دخول أحدهم أو خروج آخر».

ومع وصولي لنصف كوب القهوة، دخل أحدهم للمكان، وسحب مقعداً بجوار طاولتي، وجلس. وحينما جاءه النادل يتفقد طلباته، سمعته يطلب طلباً بدا لي غير مفهوم، فقد قال:

لو سمحت، أحضر لي كوباً من القهوة، وكوباً آخر على الحائط.

اندهشت من طلبه، وتساءلت بيني وبين نفسي عن قصده بـ«فنجان قهوة على الحائط». وما أدهشني أكثر أن النادل بدا فاهماً لما قصده الرجل، وتوجه بهدوء لتنفيذ طلب زبونه.

فكرت أن أسأل جاري عن طلبه، ولكن بدا لي أن وقع سؤالي لن يكون طيباً؛ فقررت أن ألجأ إلى الانتظار ومراقبة النادل لعلي أفهم ما المقصود بـ«فنجان قهوة على الحائط».

ولم يطل بي الانتظار، فما هي إلا لحظات حتى عاد النادل. وكان في يده كوب قهوة واحد فقط. قدمه لجاري، الذي تلقى الفنجان بلهفة، وانشغل به على الفور. غير أنني لاحظت النادل يخرج قلمه ويسجل على ورقة صغيرة من دفتر بيده عبارة واحدة: «فنجان قهوة». وتوجه من فوره نحو جهة ما في الحائط وألصقها هناك وانصرف. لاحظت أن تلك الجهة من الحائط عليها عدد ليس قليلاً من الوريقات الصغيرة، التي تحمل عبارات قصيرة، بعضها يشير إلى القهوة وبعضها الآخر يشير إلى أنواع معينة من الوجبات الخفيفة السريعة.

لم أفهم الأمر، وازداد فضولي، ولكني لم أشأ أن أسأل، فبقيت أتأمل المكان ورواده أملاً أن تقع عيني على شيء يفسر لي هذا السلوك الغريب. وبقيت كذلك عدة دقائق، دخل المقهى خلالها ثلاثة زبائن جدد، وكرروا ذات المشهد، حيث طلب كل واحد منهم فنجاناً من القهوة أو كوباً من الشاي، ومثله «على الحائط». وكان الموظف يحضر لهم طلباتهم، ثم يفعل كما فعل المرة الأولى، فيسجل نوع الطلب على ورقة صغيرة، ثم يلصقها على نفس الجهة من الحائط.

أحسست وقتها برغبة عارمة في الصراخ بكل أسئلة الاستفسار، غير أنه في تلك اللحظات دخل زبون آخر، رث الملبس يبدو معدماً. جلس بالجوار، فأتاه النادل، فقال له الرجل بهدوء:

- كوب قهوة من على الحائط، وشريحة جبن من على الحائط أيضاً.

استمع إليه النادل بهدوء، وانصرف لتنفيذ طلبه بهدوء. ولم يلبث أن عاد يحمل له كوب القهوة وشريحة الجبن، ووضعهما على الطاولة أمامه بلطف، ومن ثم اتجه صوب الحائط وانتزع إحدى الأوراق الملصقة عليه، ومكتوب عليها «فنجان قهوة على الحائط»، ثم أتبع ذلك بنزع ورقة أخرى مكتوب عليها «شطيرة جبن على الحائط»، وألقى بهما في حافظة الفواتير المدفوعة على النضد..

وهنا، لم يعد هناك شيء غير مفهوم أو بحاجة لشرح؛ فمن كانوا يطلبون الطلبات ويطلبون مثلها على الحائط، كانوا يدفعون مسبقاً ثمناً لطلبات أخرى مخصصة للفقراء والمحتاجين..

إنه التكافل الاجتماعي المهذب والتطوعي؛ تكافل يضمن لمن ليس لديه ثمن كوب قهوة من الفقراء، أو شريحة، أن يطلبها دون حرجٍ وبهدوء لا يخدش كبرياءه ولا يبعثر كرامته. وفي الوقت ذاته تعطي للمقتدر فرصة التصدق بثمن كوب قهوة دون التأثر ببؤس نظرات الفقير والمحتاج..

وفي الغالب، هذه مجرد حكاية لا أكثر. ولكن وسائل الإعلام تنقل لنا بين الفينة والأخرى وقائع شبيهة، تشجع فيها بعض المحال والمؤسسات هذا النوع من التسامح المطلوب. أي التسامح مع حاجات الفقراء، وفقرهم، فلا تعتبره نقيصة أصلية فيهم، تستدعي التعامل الحازم، ولكن تلتفت إليهم، وتعطيهم المثال الحيوي الذي يشجعهم على تغيير أوضاعهم، وعدم الغرق في السلبية، التي تأتي من مواجهة الجوع والحرمان.

Email