حكمة.. نقطة العسل

ت + ت - الحجم الطبيعي

في تراثنا الإسلامي، وفي القرآن الكريم، هناك الكثير من الآيات، التي تقص بعضاً من ممارسات الشيطان، وطرق تلاعبه في النفس البشرية، والتأثير فيها، وإبعادها عن الفطرة الإنسانية، ودفعها باتجاه طرق الضلالة والعدوان.

وفي الواقع، تجمع الأديان والثقافات الإنسانية جميعها على أن أسوأ ما يظهر من السلوك البشري هو في كثير منه، وفي أغلبه، جزء من أفاعيل الشيطان، الذي أخذ على نفسه إبعاد الإنسان عن طريق الصواب، وتوجيهه في دروب الشقاء الشائكة، التي تعقد علاقته بحياته، وبأبناء جلدته، وبالبيئة من حوله، والحكايات التي تصور ذلك كثيرة، ومنتشرة في كل الثقافات.

ولعل الهند، بحضارتها العريقة، وإرثها الثقافي الشامل، الذي يتكامل حول مفاهيم الحكمة، التي تأتي محمولة على متن مختلف النصوص، ومن أبرزها الأساطير، خير مثال على الثقافات التي تحمل العبرة الإنسانية العامة، التي تمس البشر بعمومهم، وتعبر عنهم، دون تمييز بينهم.

ومن طريف ما يروى في الأساطير الهندية أن رجلاً كريماً لقي الشيطان في عرض الطريق ولم يقدم له التحية، فغضب الشيطان، وسأله: لِمَ لم تلقِ عليّ التحية؟

فأجاب الرجل: لأنك علة كل شقاء وشر في العالم!

فقال الشيطان: أخالك مخطئاً يا صاحب في هذا الزعم، فأنا لست كذلك تعال معي وانظر بعينيك.

وسار الاثنان إلى مكان السوق الغاصة بالبيع والشراء.

دخل الشيطان دكان بائع الحلوى، وكان على الأرض وعاء من العسل الأسود، فوضع الشيطان إصبعه فيه، ثم رسم علامة بالعسل فوق جدران الدكان، وانسحب مبتعداً ووقف إلى جوار الرجل الهندي يراقب.

وحالاً، بدأ الذباب يتجمع حول العسل بكثافة، وبمجموعات كبيرة لا يمكن عدم ملاحظتها.

وما هي إلا ثوان، حتى خرجت السحالي من مخابئها، لتتلقف الذباب وتلتهمه؛ إذ كما أن العسل يجذب الذباب، فإن ظهور الذباب يجذب السحالي. وبعد ذلك، تحفزت قطة صاحب المحل، وراحت تطارد السحالي وتطردها، ولم يكن من الممكن ألا تثير حركتها المتوترة أثناء ذلك الانتباه.

وبالفعل، لم تمر سوى لحظات حينما أبصر كلب الجيران القطة، فانطلق هو الآخر يطارد القطة، باندفاع.

والمطاردة التي يندفع فيها الكلب وراء قطة، هي كما دائماً، مطاردة خارجة عن السيطرة، لا يمكن التنبؤ بنتائجها..

في هذه الفوضى، انقلب وعاء العسل، وأريق ما فيه على الأرض، فاستشاط صاحب الدكان غيظاً من جاره صاحب الكلب، وراح يكيل له بغضب شتى الاتهامات، التي لم تلبث أن تحولت إلى سباب وشتائم مقذعة؛ فانقلب النزاع باللسان بينهما، إلى تدافع بالأيدي، ثم انخرطا في شجار تبادلا فيه اللكم والضرب..

ولم يتوقف الأمر عليهما، فقد كانا من سكان نفس الحي، الذي انقسم أهله فريقين، كل فريق منهما يناصر واحداً من الرجلين. وبهذا تحول الشجار بين الرجلين إلى صراع بين أهالي الحي بأكمله..

وانتهت المعركة العنيفة بين الطرفين بتدمير جزء مهم من الممتلكات في الحي، فيما أصيب الكثيرون، ولكن أحداً من الفريقين المتقاتلين لم يتوقف ليفكر لحظة بالأسباب الحقيقية، التي أدت إلى نشوب الشجار، الذي لم يتوقف إلا بتدخل رجال الأمن الذين سارعوا إلى المكان..

هنا، التفت الرجل الهندي إلى الشيطان وقال له: أرأيت؟ ألم أقل لك إنك علة كل شقاء وشر في العام؟

فقال الشيطان: أنا لم أفعل شيئاً غير نقطه العسل التي رسمتها بإصبعي على الجدار!

فعلاً، لم يفعل الشيطان شيئاً، ولكن... كان هناك دوره وخطته المحبوكة، والمبنية على أساس؛ فهو يعلم أن الذباب يحوم حول العسل، وأن السحالي تلتهم الذباب، وأن القطة ستطارد السحالي، وأن الكلب عدو القطة. وعلم أن هذه المعركة بين الحيوانات ستجر في أذيالها أهل الحي جميعاً..

والشيطان ماكر خبيث، يجربنا دائماً بالأشياء التي نحبها وهي في طبائعنا، كما يحب الذباب العسل ويتساقط عليه، ولسنا نسقط في أي تجربه إلا إذا وجد الشيطان فينا شيئاً يلجأ إلى إثارته فينا، أو منفذاً سهلاً يدخل منه..

قال الهندي في نفسه: بلى، لو كان التسامح حاضراً في نفوس أهل الحي، لما كانت خطة الشيطان نفذت، ولا حققت غاياتها..!

هذا ما نحتاجه دائماً؛ القليل من التسامح يحمينا من التورط في مواقف لا طائل منها، وتخرج بنا عن طورنا، وعن طبيعتنا الإنسانية، وأخلاقنا. القليل من التسامح يمنحنا القدرة على التفكير قبل الإقدام على أي فعل؛ فاجعلوا في حياتكم الكثير من التسامح، فهو رفيق عقلكم، والباب الذي ينفذ منه إلى التفكير.

Email