حروب الردة (1)

عودة الهـدوء إلى الخليج بعد إخماد نيـران الفتنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

انتهينا في الصفحة السابقة إلى ما أفادتنا به الروايات التاريخية عن ردود الأفعال الأزدية على خبر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم والمواقف المشرفة لهم مع الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو الذي قرر حين تلقيه الخبر المغادرة مصطحبا معه وفدا من سبعين فارسا إلى المدينة المنورة وكان من بينهم عباد بن الجلندي وأبو صفرة.

وقد قابلهم خليفة رسول الله أبو بكر الصديق والصحابة رضوان الله عليهم أجمعين حيث أثنوا على الوفد وجزوهم خيرا ، لكننا عرفنا أيضا عن بدايات أخبار عسكرة المرتدين في دبا عند مغادرة عامل الرسول والوفد المرافق.

وقد تجولنا في بعض متاحفنا الوطنية مع الروايات الاثرية التي توثق بإيجاز التطورات التي أعقبت وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) في عام 11للهجرة، مشيرة إلى أنه بعد مرور أقل من 3 سنوات شهدت هذه المنطقة فتنة عرفت تاريخيا بحروب (الردة)، وكانت مدينة ( دبا) مسرح تلك الاحداث التي اتفق المؤرخون على وقوعها لكنهم اختلفوا في تفاصيلها وأسبابها.

ولنا مع الروايات المختلفة حول موقعة دبا ـ أخبارا وآثارا ـ رحلة تفصيلية في سجلات التاريخ الإسلامي لهذا اليوم ، وبصفة عامة فإنه لا يخفى على القراء الأعزاء بأن الحركة المضادة للإسلام بدأت تظهر بعد أن لعب الشيطان برؤوس بعض أصحاب الفتنة والضلالة ووسوس لها بالكفر والحماقة في اليمامة أولا حيث ارتد مسيلمة الكذاب.

ثم ظهرت سجاح التميمية فادعت النبوة وتزوجها مسيلمة الكذاب، كما ادعى النبوة طليحة الأسدي في أطراف نجد وكذلك فعل الأسود العنسي في اليمن. فلما قبض الرسول صلى عليه وسلم ارتد بعض الأعراب.

وأعلنت الردة في زمن الصديق وقاد تلك الردة مسيلمة الكذاب والمنذر بن النعمان الملقب بالمغرور وانتهت الردة بمقتل رأس الفتنة مسيلمة الكذاب. إلا أن تلك الأحداث أثرت بشكل مباشر على عمان وعلى مدينة (دبا) التي كان فيها لقيط الذي صار اسمه ذا التاجين.

هذه الفتنة اختلف فيها المؤرخون فمنهم من أسماها (ردة) ومنهم من أسماها (شحة) في دفع الزكاة، وحسب التقليد ما زال عشرة آلاف قتيل يرقدون في مقبرة كبيرة تقع خارج مدينة دبا وتعرف (بمقبرة أمير الجيوش) وتتميز تلك القبور بالشواهد الحجرية، وتبقى أسئلة متحف الفجيرة مثارة عن البقايا المعمارية لأولئك السكان؟

وماذا كانت طبيعتها؟ أو مدى انتشارها في المنطقة التي يدل حجم المعارك التي دارت فيها بين أناس كثيرين كانوا يعيشون في هذا الجزء من الساحل؟ والذي يعنينا من هذه الحادثة أنها كانت موضع جدال طويل بين المؤرخين فالمصادر الأساسية كالطبري والبلاذري وابن الأثير وغيرهم تشير إلى أن قبائل العتيك الأزدية بزعامة لقيط قد ارتدت واتخذت من دبا موقعا لها ـ والردة كما هو معلوم ـ التحلل من العقيدة الإسلامية والرجوع إلى الكفر .

في حين تنكر المراجع العمانية حدوث حركة ردة في عمان وتقول إن الأمر لا يعدو أن يكون نزاعا بين بعض القبائل، عموما فإنه بعد هذه الحادثة كان لعمان شأن كبير في التاريخ الإسلامي، فما لبث المسلمون في عمان إلا أن شاركوا في فتح البلدان ونشر الإسلام، في بلاد فارس وبلاد ما وراء النهرين والهند حتى وصلوا إلى الصين.

لنبدأ بخلاصة للروايات التي تفيد بأن دبا اشتركت في جيوش المسلمين لمحاربة المرتدين وفيها أن وفد الأزد قدم من (دبا) مقرين بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام فبعث عليهم مصدقا منهم يقال له (حذيفة بن محصن البارقي الأزدي) من أهل (دبا) فكان يأخذ الصدقات من أغنيائهم ويردها إلى فقرائهم، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بفرائض لم يجد لها موضعا.

ولما مات الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدوا فدعاهم إلى الاسلام مرة ثانية فأبوا فكتب ابو بكر الى (عكرمة بن ابي جهل) وكان النبي قد استعمله على صدقات عامر أن سر فيمن معك من المسلمين، وكان رئيس أهل الردة «لقيط بن مالك الازدي» الذي جهز جيشا، بينما كان جيش أبي بكر قد وصل إلى منطقة (وادي الغامي) وتسمى (الريامة)، وعسكر فيها ثم وصل إلى دبا والتقى الجيشان عند منطقة (وم) وحاصرهم المسلمون شهرا ثم دخلوا حصونهم.

وفي رواية اخرى لأبي الحسن أحمد بن يحيى جابر البغدادي «أنه عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت الأزد وعليها لقيط بن مالك ذو التاجين وانحازت إلى دبا فوجه أبو بكر رضي الله عنه إليهم حذيفة وعكرمة فوقعا لقيطا ومن معه وسبيا من أهل دبا سبيا بعثا به إلى أبي بكر ثم أن الأزد رجعت إلى الإسلام».

ويخلص المؤرخ الإماراتي عمران بن سالم العويس «ان حاصل هذه القضية كما أوردتها بعض المصادر هو أن قام ذو التاج الأزدي وهو من ذرية الحارث بن مالك بن فهم بتمرد وعصيان على جماعته وكاد أن يسيطر على الموقف، فالتجأ جيفر وعبد ابنا الجلندي ملكا عمان الى الجبال واستنجدا بأبي بكر الصديق رضي الله عنه يطالبانه بأن ينجدهما لقمع تلك الفتنة بعد أن اعيتهما معالجتهما بأنفسهما فأرسل أبو بكر الصديق (حذيفة بن محصن) وآخرين والتحق بهم (عكرمة بن ابي جهل) ومن معه وأخبرهم أن يكاتبوا جيفر وعبد ابني الجلندي وطلبوا منه القدوم إليهم.

وكاد المتمردون أن يتغلبوا على المسلمين لولا وصول نجدات لهم من بني ناجية وكذلك نجدات من بني عبد القيس فرجحت كفة المسلمين وتغلبوا على المتمردين وأخذوهم أسرى إلى المدينة المنورة وذلك في أواخر خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه».

لقد انقسم المؤرخون حول هذه الحادثة إلى فريقين فريق يقول: إنهم ارتدوا، أما الفريق الثاني فينعتهم بالشح والامتناع عن تأدية الزكاة فبعد انتقال الرسول صلى عليه وسلم الى الرفيق الأعلى حدثت الردة ولما وصل الخبر إلى أبي بكر قال قولته المشهورة: «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه».

وهكذا رأى خليفة رسول الله أن الإسلام كل لا يتجزأ وليس هنالك من فرق بين فريضة وأخرى، والزكاة وإن كانت من النظام الاقتصادي، إلا أنها ركن من أركان الإسلام، وعبادة بحد ذاتها، ولا يمكن تطبيق جزء من الإِسلام وإهمال آخر ومن أقواله رضي الله عنه: «إنه قد انقطع الوحي، وتمَ الدين، أوَينقص وأنا حي؟ أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحقها، ومن حقها الصلاة وإيتاء الزكاة، والله لو خذلني الناس كلهم لجاهدتهم بنفسي».

وتذكر المصادر الإسلامية ان المرتدين انقسموا إلى فريقين، الأول سار وراء المتنبئين امثال مسيلمة الكذاب وطليحة والأسود وسجاح وآمنوا بما يقول هؤلاء الكذابون، أما الفريق الثاني فبقي على ايمانه بالله وشهادته بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإقامة الصلاة إلا أنه رفض تأدية الزكاة وعدها ضريبة يدفعها مكرها إلا أن أبا بكر رضي الله عنه رفض قبول ما جاء به الفريق الثاني عندما وفدوا إليه في المدينة عارضين أمرهم وكانوا يعتقدون بأنه سينصاع إلى ماجاؤوا به، لذا فقد فسر المؤرخون امتناع اهل عمان عن تأدية الزكاة ردة عن الإسلام.

ويخبرنا الدكتور فالح حنظل عن حروب الردة في المنطقة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) عام 11هجرية فيقول «بأنه لما تمت البيعة لأبي بكر الصديق ارتفعت أعناق أعداء الإسلام والمسلمين وراحوا ينشرون الإشاعات والأراجيف ويوجهون لبعض العرب بأن يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وكان بعض العرب قد خدعوا والنبي لا يزال بين أظهرهم، فقد سمع بعض العرب لطليحة حين ادعى النبوة.

وسمع بعض بني حنيفة لمسيلمة حين بعث النبي يبلغه بأنه نبي مثله. وسمع أهل اليمن للأسود العنسي ذي الخمار، فلما قبض الرسول، كان الإسلام قد استقر استقرارا غير ثابت في المناطق العربية البعيدة عن الحجاز ومنها منطقة الخليج العربي التي كانت قريبة من نفوذ الدولة الساسانية في فارس والتي كانت تناوئ الدين الجديد بشتى الأساليب ناهيك عن الدعاية المسيحية واليهودية والوثنية التي كانت تعشعش في هذه البلاد.

لذلك فقد حدثت الردة وثارت الاضطرابات في منطقة الخليج العربي إلا أن تلك الردة ما لبثت أن وئدت في مهدها، فكانت اليمامة المقبرة التي قضى فيها خالد بن الوليد على مسيلمة الكذاب ثم صارت البحرين لحدا للمرتدين حيث قضى العلاء بن الحضرمي على ردة الحطم بن خبيعة هناك.

أما في عمان فقد حدثت فتنة في (دبا) أدت إلى مصرع رأسها هناك وهو ذو التاجين لقيط بن الحارث بن مالك الازدي، وهي الفتنة التي اختلف المؤرخون في أمرها، بين قائل انها كانت ردة وبين قائل آخر انها كانت سوء تفاهم أدى إلى فتنة راح ضحيتها الألوف من أبناء مدينة دبا، وعلى كل حال فقد اخمدت الردة في المناطق التي ثارت فيها وكانت سياسة أبي بكر خير كفيل بالنجاح والنصر، حيث كان في حكمته مثال العدل والرحمة، فساد الهدوء أرجاء الخليج العربي وصارت أقاليمه تابعة للحكومة المركزية في الحجاز.

وللدكتور عصام سخنيني إشارة تستوقفنا بصدد حروب الردة في المنطقة حيث يقول في بحث له عن «الانتشار العربي في الساحل الشرقي شبه الجزيرة العربية»: «إن ما يهمنا من هذه الحروب لأغراض البحث أن عنصر الصراع العربي الفارسي على الساحل الشرقي للجزيرة العربية ـ وهو ما لم يفطن إليه كثير من المؤرخين ـ كان عاملا مهما من العوامل التي صنعت الردة بالاضافة إلى العوامل العقائدية والاقتصادية والقبلية.

وكانت الردة في البحرين مثلا واضحا على ما نذهب اليه وفي عمان كان الوضع مختلفا إذ لم يتبين لنا إلا إذا ثبت عكس ذلك من مصادر لم تكتشف بعد أي تأثير فارسي في حركة المرتدين، ويبدو أن نفوذ فارس كان قد قضي عليه تماما منذ دخول الاسلام عمان أول مرة وهكذا لم يجد أبو بكر صعوبة في قمع حركة المرتدين وإعادة عمان إلى سيادة الحكومة المركزية في المدينة.

وفي بحث بعنوان (الحضارة الإسلامية ودور العمانيين في تطويرها ) يستوقفنا الدكتور احمد شلبي حركات التمرد في عمان في عهد الصديق رضي الله عنه فيسجل غيرة المؤرخين العمانيين المحدثين، تلك الغيرة المحمودة التي تحاول أن تفسر الأحداث بما يؤكد تمسك العمانيين بالإسلام وعدم انحرافهم عنه في أي عصر من العصور، فبعد أن يستعرض ما أورده ابن الأثير عن موقعة دبا وإشارته إلى انضمام العمانيين للجيش الإسلامي من بني ناجية بقيادة الخريب بن راشد وبنو عبد القيس بقيادة سيحان بن صوحان.

يقول الباحث إن المؤرخ العماني السالمي يهاجم ابن الأثير وروايته ويرى أن كلامه باطل لا أصل له ويقرر ان سبب هذه الواقعة أن امرأة من بني الحارث بن مالك بن فهد هي السبب ـ كما سنعرف لاحقا ـ ويعلق الباحث أن السالمي لم يذكر مرجعا لرأيه، ولكن مما يؤيد كلام السالمي تلك العبارة الطيبة التي قالها أبو بكر الصديق لوفد عمان عندما قدموا عليه عقب توليه الخلافة وهذه العبارة هي : « انكم يا معشر أهل عمان ... الخ « راجع النص في الصفحة الأولى من هذه السلسلة - فهذه العبارة تدل على كمال طاعة أهل عمان في مطلع عهد أبي بكر فهي تؤكد كلام السالمي.

وعلى كل حال حسب تعليق الباحث فإن كلام السالمي فيه ما يسمى في البلاغة العربية ( بحسن التعليل ). والأمر كذلك فإننا نكتفي بهذا القدر من الروايات والقراءات والآراء التاريخية المختلفة حول هذا الحدث الكبير في سجلات تاريخنا الإسلامي المبكر أخبارا وآثارا لنستعرض المزيد منها غدا إن شاء الله.

Email