كالفراش المبثوث

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يرد ذكر الفراش في القرآن الكريم إلا في موضع واحد، وذلك في سورة القارعة، حيث قال الله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4]،

وقد جاء ذكره على سبيل التشبيه لحركة الناس عند البعث يوم القيامة، حيث يخرجون من قبورهم كالفراش المبثوث أي المنتشر، إشارة إلى كثرتهم وضعفهم واضطرابهم، وذلك لموج بعضهم في بعض، وركوب بعضهم بعضاً؛ لشدة أهوال ذلك اليوم، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتِشِرٌ} [القمر: 7].

جراد منتشر

والظاهر أن الانتشار يجمع بين التشبيهين: تشبيه الناس عند البعث بالفراش المبثوث، وتشبيههم بالجراد المنتشر، ولكن هناك فرق في طبيعة الحركة، فالفراش يطير لا لجهة يقصدها، بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى، أما الجراد فتطير جميعها لجهة مقصودة، ولذلك قال بعض المفسرين: إن الوصف في الآيتين لموقفين مختلفين يوم القيامة: أحدهما عند الخروج من القبور، يخرج الناس فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، فيدخل بعضهم في بعض، فهم حينئذ كالفراش المبثوث بعضه في بعض، والثاني عند سماع المنادي فيستجيبون له ويقصدونه، فصاروا كالجراد المنتشر.

والفراش معروف في تفرُّشه وخفته وانتشاره، وبه يضرب المثل في الطيش والهوج، يقال: أطيش من فراشة، وفي صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله: «مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذُبُّهن عنها، وأنا آخذ بِحُجزِكم عن النار وأنتم تفلِّتون من يدي».

ولذلك يعجب الإنسان من دقة هذا التشبيه القرآني المعجز، وهذا يدفع الباحث إلى التأمل والتفكر في هذه الحشرة اللطيفة ودورة حياتها وحركتها وما فيها من إعجاز يستحيل خلق مثلها.

مادة خيطية

فالفراشة من الكائنات التي تبيض ما يقارب من (450_500) بيضة في المرة الواحدة، وللمحافظة على البويضات تقوم بربط بعضها ببعض بواسطة مادة خيطية لاصقة تفرزها، وبهذا تمنع تناثر البيوض في الأطراف، وبعد خروج اليرقات من البيض تقوم بربط نفسها بغصن شجرة ملائمة لها بواسطة الخيوط التي تفرزها، ومن أجل إتمام نموها تقوم بإفرازات خيطية لحياكة الشرنقة، وكل هذا تقوم به اليرقات خلال ثلاثة أو أربعة أيام بطريقة متواصلة ودون توقف.

والفراشة من الحشرات الحرشفية الأجنحة، والتي تتميز بأربعة أجنحة مغطاة بحراشيف مفلطحة تلتصق بالأصابع كالبودرة، مما يمثل صورة من صور الضعف المدرك في الخلق.

ولو نظرنا بدقة إلى أجنحة الفراش نرى أمامنا أجنحة متناظرة الشكل تماماً، كأنها لوحة مرسومة، وهي تمثل شيئاً فوق العادة في صناعتها وألوانها، فلا يوجد اختلاط في ألوانها الموجودة، فهي تتكون من أقراص صغيرة جداً مرتبة واحدة بجانب الآخر، كأنها من صنع رسام واحد، بل هو خالق واحد عظيم لا مثيل لخلقه {هُوَ اللهُ الخَالَقُ البَارِئُ المُصَوِرُ لَهُ الأسماء الحُسنى يُسَبّحُ لَهُ مَا في السَّموَاتِ والأرض وَهُوَ العَزيُز الحَكيمُ} [الحشر: 24].

وعند التأمل في مراحل حياة الفراش نجد أنها تبدأ بالبيض الملقح، وهو صغير جدا، ويتخذ أشكالا مختلفة وتضعه الأنثى فوق النبات المناسب كطعام ليرقاتها بعد الفقس،‏ ويفقس البيض بعد حوالي خمسة أيام، وتخرج منه يرقة على هيئة الدود الصغير جدا في شكلها‏، واليرقات لها فكوك قوية وستة أرجل حقيقية..

بالإضافة إلى عدد من أشباه الأرجل، وتبدأ اليرقات فورا في تناول الطعام الذي تلتهمه بكميات كبيرة وبشراهة ملحوظة فتنمو في الحجم بسرعة مما يضطرها إلى الانسلاخ عن الجلد لعدة مرات فتشبه في عريها خروج الموتى من الأجداث ‏(‏حفاة عراة غرلا‏)‏ كما وصفهم رسول الله.‏

حشرة كاملة

ثم تتشرنق اليرقات فيما يشبه الكفن أو القبر أو تربط نفسها برباط من حرير إلى النبات الذي تتغذى عليه استعدادا للمرور بمرحلة العذراء‏ (الحورية‏)‏ أو الخادرة ‏(المستترة في خدرها‏)،‏ وفي هذه المرحلة يعاد خلق الحشرة بأكملها، وكأنها عملية بعث لها حيث تذاب اليرقة ذوبانا كاملا، ثم يعاد بعثها بعد أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع على هيئة الحشرة الكاملة، وهي تختلف تماما عن اليرقة التي جاءت منها، وكأنه البعث من جديد، وكذلك يبعث الناس في أواسط أعمارهم.

وبعض العذارى ‏(الحوريات‏)‏ قد تمضي فصل الشتاء كله في مرحلة الخادرة ‏(المستترة‏)، ‏ولذلك تؤجل عملية التحول الكيميائي العجيب حتى مطلع الصيف، وكأنها في عملية بيات شتوي أو في القبر..

وبعد تمام تخلق العذراء تستعد للخروج من خدرها‏ (‏شرنقتها‏)‏ تماما كما يستعد الميت الذي بعث للخروج من قبره، فيتحول جلد الخادرة إلى حالة نصف شفافة، ثم ينشق كما تنشق القبور عن أصحابها. وتخرج عذارى الفراش بالملايين من شرنقاتها ضعيفة هزيلة زاحفة ببطء في اضطراب وحيرة، كما سيخرج مئات البلايين من البشر من قبورهم في ذهول واستغراب واضطراب وحيرة.

وتبدأ الحشرة بأجنحة مهيضة تضخ فيها الدم بالتدريج حتى تنفرد وجسمها مبلل‏ (‏بسوائل مرحلة العذراء‏)،‏ فتقف قليلا في الشمس حتى تدفأ وتصبح مستعدة للطيران ولتكرار دورة حياتها من جديد‏.‏

والتشبيه القرآني للناس في لحظة البعث بالفراش المبثوث تشبيه معجز لأن دورة حياة الفراش لم تعرف إلا في القرنين الماضيين وسبق القرآن الكريم بهذا الوصف العلمي الدقيق الذي جاء به في مقام التشبيه لما يشهد لهذا الكتاب الخالد بالدقة والشمول والكمال.

Email