أكرم من حاتم الطائي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثقافة بمعناها الواسع، تشمل كل تجليات التعبير المشترك كالحِكَم والأمثال الشعبية وكل الموروثات. إنها وليدة تفاعل الناس ومتطلبات حياتهم، ليتم تناقل المنجز جيلاً بعد جيل ضمن منظومة الهوية. هنا نتلمس عروق الذهب الذي بلورته التجارب حتى انتهى إلينا عبر اللغة بما يلخص قصة عناق طويل مع الحياة.

الجود والكرم من مكارم أخلاق العرب الراسخة، التي لازمتهم حتى قبل أن يتممها لهم ربهم بنعمة الإسلام. وحتى نقارن بين صفات هذه الأمة قديماً واليوم، نسوق مثلاً عن أشهر العرب سخاءً: حاتم الطائي..

سئل حاتم يوماً، عما إذا كان أحد قد غلبه في الكرم؟ فقال: نعم، غلام يتيم من طي، نزلت بداره وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه، وأصلح من لحمه، وقدمه إلي وكان فيما قدم إلي الدماغ فتناولت منه فاستطبته. فقلت: طيب والله، فخرج من بين يدي وجعل يذبح رأساً رأساً ويقدم لي الدماغ وأنا لا أعلم، فلما خرجت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً وإذا هو قد ذبح غنمه جميعاً.

فقال: أنت أكرم مني.

وقيل إن أحد قياصرة الروم بلغته أخبار حاتم فأستغربها، وفيما بلغه أن لحاتم فرساً من كرام الخيل عزيزة عنده فأرسل إليه رسولا يطلب الفرس، فلما دخل الرسول دار حاتم استقبله أحسن استقبال، ورحب به وهو لا يعلم أنه حاجب القيصر، وكانت المواشي في المرعى، فلم يجد إليها سبيلاً لقرى ضيفه، فنحر الفرس، وأضرم النار ثم دخل إلى ضيفه يحادثه، فأعلمه أنه رسول القيصر قد حضر يستميحه الفرس فساء ذلك حاتم وقال: لو أنك أعلمتني قبل الآن، فأنى قد نحرتها لك إذ لم أجد جزوراً غيرها فعجب الرسول من سخائه وقال: والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا.

ويحكى أن أعرابياً عرج على دار حاتم الطائي بعد عناء سفر طويل، ملتمساً الراحة والطعام والشراب لما سمعه عنه من كرم ومروءة، فلما التقاه حاتم سأله بجفاء متصنع عن حاجته، فأجابه الأعرابي: والله إني متعب من السفر، وشديد الجوع والعطش، فقصدتك لما سمعت عن كرمك بين العرب، فقال له حاتم متصنعاً: وهل داري مفتوحة لكل من شاء؟ فاستحى الأعرابي، وأسرع إلى جواده دون أن ينطق بكلمة، فلما ابتعد، تلثم حاتم وامتطى جواده ولحق به، فلما التقاه حياه وقال له: من أين أنت قادم يا أخا العرب؟ فأجابه الأعرابي: من عند حاتم الطائي، فسأله حاتم: وما كانت حاجتك عنده؟ فأجاب: كنت جائعاً فأطعمني وعطشاناً فسقاني وعندما كشف حاتم عن وجهه وهو يضحك، سأل الأعرابي: لماذا كذبت علي؟ فأجابه الأعرابي: والله لو قلت غير ذلك لما صدقني أحد من العرب ولقالوا عني مجنوناً، إلى هذا الحد صار الكرم ملكية فكرية للطائيين. ترى كم بقي من حاتم وذلك الفتى والطائيين بين العرب؟.

Email