عند الصباح يحمد القومُ السُّرَى

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثقافة بمعناها الواسع، تشمل كل تجليات التعبير المشترك كالحِكَم والأمثال الشعبية وكل الموروثات. إنها وليدة تفاعل الناس ومتطلبات حياتهم، ليتم تناقل المنجز جيلاً بعد جيل ضمن منظومة الهوية. هنا نتلمس عروق الذهب الذي بلورته التجارب حتى انتهى إلينا عبر اللغة بما يلخص قصة عناق طويل مع الحياة.

السُّرَى، المسير ليلاً في السفر، وقصة المثل العربي الشهير أنه وفي عهد سيدنا أبي بكر الصديق، تجهز الروم لحرب المسلمين، وقام هرقل وأمر بخروج الجيوش الرومية، فرقة فرقة في مقابلة كل أمير من المسلمين بجيش كثيف، فبعث إلى عمرو بن العاص (تذارق) في تسعين ألفاً من المقاتلة، وبعث (جرجه بن بوذيها) إلى ناحية يزيد بن أبي سفيان فعسكر في خمسين ألفاً أو ستين ألفًا، وبعث القائد (الدارقص) إلى شرحبيل بن حسنة، وبعث (اللقيقار) في ستين الفًا إلى أبي عبيدة بن الجراح. أما عسكر أهل الإسلام فكان جميعه إحدى وعشرين ألفًا، سوى الجيش الذي مع عكرمة بن أبي جهل وكان واقفًا في طرف الشام في ستة آلاف.

عندها كتب الأمراء إلى أبي بكر وعمر يعلمانهما بما وقع من الأمر العظيم، فكتب إليهم أن اجتمعوا وكونوا جنداً واحدًا وألقوا جنود المشركين فأنتم أنصار الله، والله ينصر من نصره، وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة، ولكن من تلقاء الذنوب فاحترسوا منها، وليصلِّ كل رجل منكم بأصحابه.

وقام الصديق وبعث إلى خالد بن الوليد وهو بالعراق، ليقدم إلى الشام، فيكون الأمير على كل من به، فإذا فرغ عاد.

ولما بلغ هرقل ما أمر به الصديق أمراءه من الاجتماع بعث إلى أمرائه أن يجتمعوا أيضاً، وان ينزلوا بالجيش منزلاً واسع العطن، واسع المطرد، ضيق المهرب، وجعل على الناس أخوه بندارق، وعلى المقدمة جرجه، وعلى المجنبتين ماهان، والدارقص، وعلى البحر القيقلان.

وعندما بلغ الكتاب خالد بن الوليد، رضي الله عنه، استناب المثنى بن الحارثة على العراق، وسار خالد مسرعاً في تسعة آلاف وخمسمائة، ودليله رافع بن عميرة الطائي، وسلك أراضي لم يسلكها قبله أحد فاجتاب البراري والقفار، يصل ليله بنهاره، وقطع الأودية، وتصعد على الجبال، وجعل رافع يدلهم في مسيرهم على الطريق وهو في مفاوز معطشة، وعطش النوق وسقاها الماء عدلاً بعد نهل، وقطع مشافرها، فلما فقدوا الماء نحرها فشربوا ما في أجوافها من الماء، وهكذا وصل خالد في خمسة أيام، فخرج على الروم، من ناحية تدمر.

كان بعض العرب قال له في هذا المسير إن أنت أصبحت عن الشجرة الفلانية نجوت أنت ومن معك، وان لم تدركها هلكت أنت ومن معك، فسار خالد بمن معه وسروا ليلاً طويلاً، فاصبحوا عند هاتيك الشجرة فكبر وكبروا معه، فقال خالد:(عِنْدَ الْصَبَاح يَحْمَدُ الْقُوْمُ الْسُّرَى) فذهبت مثلاً، لمن يدرك غايته بعد ليل طويل ومعاناة وصبر.

Email