قطعت جهيزة قول كل خطيب

ت + ت - الحجم الطبيعي

الثقافة بمعناها الواسع، تشمل كل تجليات التعبير المشترك كالحِكَم والأمثال الشعبية وكل الموروثات. إنها وليدة تفاعل الناس ومتطلبات حياتهم، ليتم تناقل المنجز جيلاً بعد جيل ضمن منظومة الهوية.

هنا نتلمس عروق الذهب الذي بلورته التجارب حتى انتهى إلينا عبر اللغة بما يلخص قصة عناق طويل مع الحياة.

يُطلق هذا المثل على من يأتي بقول أو خبر يضع حداً لكل زعم أو دعوة. وأصله أن قوماً اجتمعوا يتشاورون في صُلح بين حيين، قتل أحدُهُما من الآخَر قتيلاً، ويحاولون إقناعهم بقبول الدِّية، فيقوم خطيب ذرب اللسان يخطب معدداً مناقب أهل الدم ومثمناً مآثرهم، ويدعو إلى تحكيم العقل والتسامح ثم يجلس ليقوم آخر فيأتي بما هو أقوى وأشد تأثيراً من سابقه. وبينما هم كذلك، فإذا بامرأة تدعى »جهيزة« جاءت إليهم لتخبرهم بأن القاتل قد ظَفِرَ به بعضُ أولياء المقتول وقتلوه.

فَقَالوا عند ذلك: »قَطَعَتْ جهِيزةُ قول كل خطيب«. أي أن الخطب البليغة لم تعد تجدي، لأن الغاية منها ذهبت أدراج الرياح. فما يجدي اذا اقتنع أولياء الدم بها أو سفهوها، مادامت النفس ذهبت بالنفس، وقضي الأمر، وسبق السيف العزل.

في زمان الناس هذا، لم تترك وكالات الأنباء شاردة ولا واردة إلا وأتت بها إليك قبل ان تقوم من مقامك، وبالتفاصيل والتحليل الذي لا يسمح لك بأي تأويل أو تحويل، فالنبأ الغائب عبر الزمان والمكان ومن كل فج عميق يأتيك يجرجر أذياله بالصوت والصورة، ومع شهود العيان والنتائج بين عينيك كاملة غير منقوصة، فمن هي جهيزة هذا الزمان؟

أهي الصورة الدامغة القاطعة المانعة المرفقة مع الخبر، أم وكالة الأنباء والفضائية يا ترى؟. ولكن ما قطعت هذه قول خطيب واحد قط.

هل تلحظون؟

ما يميز زماننا أنه غدا عصر الجهيزات والأجهزة، بلا حدود، وبلا مراء.

وإنني لأعجب، كيف صدق أولئك القوم جهيزة بهذه البساطة؟، ولماذا لم يخطر لهم أنها عميلة، هدفت إلى تشتيت شمل مجلس الخير، قبل أن يلين جانب أولياء الدم، فيتنازلوا عن حق الثأر؟.

الناس قديماً كانوا قليلاً ما يكذبون، حتى لو كانوا عبدة أوثان، وقليلاً ما يكذّبون، كانوا صادقين وصدّيقين، يثقون ببعضهم ويميلون إلى الحق وأهله، والحقيقة وأهلها، بدليل أن أَمَة بسيطة، تسكت رجالا لا ندري كم كان عددهم، فيذعنون لها ويسلمون بما قالت؟

الآن كم جهيزة تنقل لنا الأخبار، ولكننا لا نعول عليها بالقدر ذاته، بل نبحث عن تأكيدات، ونتوقع نفياً، لا نستغرب إذا حدث، لأنه كثيراً ما يحدث النفي أو الرواية الأخرى.

فلقد شاع الكذب، وشاع دس السم في دسم الخبر، وفي تحليله وإحالته حتى باتوا يقولون »كلام جرايد« بمعنى أنه مبالغ فيه، بدل قولهم: قطعت جهيزة قول كل خطيب.

ألف جهيزة لم تعد قادرة على أن تقطع قولاً واحداً، مهما كان فحواه ومصدره. الناس كانوا أفضل، وحديثهم ذا قيمة، كلامهم كان يساوي ذهباً.

Email