زايد المزروعي «خوي» القائد المؤسس في أسفاره:

رحلات «مقانيص» الشيخ زايد عطاء وبناء وتعمير للأوطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

العظماء لا يرحلون لأنهم يتركون من طيب ذكرهم ما يبقى خالداً أبد الدهر، وتتناقل الأجيال سيرتهم غضّة حيّة كما لو أنهم يعايشونها لحظة بلحظة..

والمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، كان قامة إنسانية باسقة، يفوح عطره على كل من عاصره، فأصبحت يومياته معهم كنزاً ثميناً يتناقلونه بين أبنائهم وأحفادهم ميراثاً عزيزاً يستقون منه ما يهتدون به في الحياة..

هذه صفحة يومية لأناس عاصروا الشيخ زايد بن سلطان يروون أحاديث الفكر والقلب والوجدان ممزوجة بعبق المحبة الغامر.

نسمع ونقرأ باستمرار هنا وهناك عن أشخاص رافقوا وجالسوا المغفور له الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، خلال فترة تأسيسه دولة الإمارات، ولكن قليلاً ما نجد أولئك الذين عايشوه منذ قيام دولة الاتحاد إلى وقت وفاته، مدونين ما تحتفظ به جعبة ذاكرتهم من مواقف وأحداث يكفيها اعتزازاً أنها تضم قصصاً لم ولن تبرح القلب والعقل، قصصاً وعبراً لحكيم القرن العشرين وقائد الأمة.

فمنذ العام 1971 وعلى مدى أكثر من 31 عاماً حظي زايد غانم المزروعي بصحبة القائد المؤسس فقضى مع المغفور له أحلى فتراته العمرية من رحلات القنص والزراعة والتعمير، مسترشداً بأفعال القائد وممارساته اليومية القدوة والنبراس الذي أضاء الطريق نحو النمو والتطور، وكان قريباً من الشيخ زايد حيث كان يلقبه بـ «الشاعر».

ويقول عن علاقته بالمغفور له: رافقت الشيخ زايد في أغلب رحلات المقانيص خارج الدولة لمدة تتراوح ما بين 3 إلى 4 أشهر في كل رحلة، فكانت رحلات عطاء وإعمار وبناء لسكان تلك المناطق يتلمس حاجاتهم ويؤمن لهم الخدمات التي يحتاجونها.

بدايات

وحول بداية العمل مع المغفور له الشيخ زايد، يقول زايد المزروعي: أنا أعتبر «خوي» للشيخ زايد في رحلاته وأسفاره، لكوني وقتها أعمل في وظيفة ضابط ارتباط في قصر البحر بأبوظبي، حيث كانت وظيفتي تتمثل في تعريفي بالناس الذين يرغبون في زيارة الشيخ زايد، واستقبالهم عند الباب، وتحديد المواعيد المناسبة لاستقبالهم، أي أني كنت الوسيط بينهم وبين الشيخ زايد، رحمه الله.

وتابع: أما عن أول لقاء لي جمعني مع الشيخ زايد، فقد كان له وقع كبير في حياتي ومستقبلي المهني، وأتذكر يومها عندما كنت صغيراً وأقطن مدينة المرفأ التي تقع في منطقة الظفرة حالياً، حيث قام المغفور له الشيخ زايد بزيارة إلى المدينة لتفقد أحوال سكانها، فاصطففنا لاستقباله والسلام عليه، وكنت وقتها قد تعرضت لحادث مضحك انكسر على إثره أنفي، وأصبح لونه أسود من الإصابة.

وأضاف: حينما قدم الشيخ زايد إلى المنطقة المحددة للقاء الأهالي، قدم جميع أبناء المدينة لتحيته والسلام عليه وفقاً لعاداتنا المحلية بتقبيله في الأنف، إلا أنني عندما حان دوري مددت له يدي لمصافحته لأني استحييت أن أقبله على أنفه من جراء الإصابة التي لحقت بي، حينها لاحظ، رحمه الله، بحنكته الإصابة وعلم بأني كنت خجلاً من تقبيله، فاقترب مني الشيخ زايد وقام بتقبيلي، وسألني عن سبب الإصابة التي تعرضت لها، فأجبته بأنني أثناء وجودي في إحدى المناطق الجبلية عثرت على كرة كانت تتدحرج من فوق الجبال، فأخذتها إلى داخل السيارة، وعندما قمت بثقبها باستخدام سكين، حصل انفجار تسبب في كسر زجاج السيارة وانكسار أنفي.

وتابع: ضحك الشيخ زايد من الموقف، وطلب من الطبيب المرافق له أن يتولى مهام علاجي، حيث قام بإعطائي مجموعة من العقاقير والمراهم الطبية التي أسهمت في شفائي وعلاج الإصابة التي لحقت بي، مضيفاً أن الموقف جعل محبته للشيخ زايد تزداد وتكبر وتتسع أكثر في قلبه، فهو القائد والأب المحب لشعبه والحريص على أن يوفر لهم كل متطلبات الحياة.

نقلة نوعية

في سن الخامسة عشرة باشر زايد المزروعي عمله في دائرة الكهرباء والماء، وبعد مرور عامين على ذلك، وتحديداً في سن 17، نما إلى علمه من بعض سكان مدينة المرفأ أن المغفور له الشيخ زايد يرغب في تعيين عدد من أبناء الوطن في منصب ضباط ارتباط، ليبدأ في عام 1971 رحلة عمله مع الشيخ زايد، تلك الرحلة التي تلقى فيها الكثير من الدروس والعبر والحكايات المفيدة التي تعلمها من مدرسة زايد الخير، ويؤكد المزروعي أن الخبرة التي اكتسبها وأقرانه أثناء مرافقتهم الشيخ زايد خلال سـنة واحدة تعادل خبرات سنوات عديدة.

أما عن لقب «الشاعر» فيقول المزروعي: «الشيخ زايد هو من سماني بهذا الاسم، وذلك عندما كنت برفقته في منطقة الخزنة، حينما كنا نلعب كرة الطائرة، وكان الشيخ زايد وأنا وشخص ثالث اسمه زايد نلعب في فريق واحد ويحمل ثلاثتنا اسم «زايد»، ولتنظيم الأدوار الموكلة لكل لاعب في الفريق، قام الشيخ زايد بتسميتي بالشاعر نظراً لكوني معتاداً على نظم وإلقاء القصائد الشعرية، حيث كلفت بكتابة عدد من القصائد للمناسبات الرسمية، منها اجتماعات دول مجلس التعاون الخليجي، فيما أطلق اسم «الشامسي» على الشخص الثالث الذي كان يحمل اسم «زايد»، ومن يومها صار لقب «الشاعر» ملازمني إلى الآن، مضيفاً أن المغفور له كان معروفاً بمنحه الألقاب، فمثلا سمى ابنه سمو الشيخ سلطان بـ «بومييد» وغيره الكثير.

عرف عن زايد المزروعي نظمه الشعر والقصائد، فكتب وألّف أكثر من 200 قصيدة، معظمها كانت تثمن وتشيد بدور الوالد الراحل الشيخ زايد، رحمه الله، وتروي أهم الحكم والممارسات التي كان يعكف على القيام بها في سبيل نهضة الوطن وبناء الإنسان الإماراتي، أما باقي القصائد فكانت تصف المناطق التي عاش فيها وزياراته برفقة الشيخ زايد إلى خارج الدولة.

قنص وعطاء

رافق المزروعي الشيخ زايد في أغلب رحلات المقانيص، ويقول زايد المزروعي: «معظم رحلات القنص كانت إلى باكستان وتحديداً منطقة «رحيك يار خان»، فضلاً عن زيارة بلدان مثل الجزائر والمغرب، حيث كنا نقضي في رحلات القنص مدة تتراوح ما بين 3 إلى 4 أشهر، أما المقناص الحديث فيستمر ما بين أسبوعين إلى شهر كحدٍ أقصى.

وتابع «وفي رحلات القنص إلى باكستان كان عدد أفراد المقناص نحو 300 شخص، يسافرون في 3 أو 4 طائرات إلى مدينة «كراكي» ومنها يستقلون القطار إلى أن يصلوا إلى قصر الشيخ زايد في مدينة «كراتشي»، وكان المغفور له عندما يصل إلى منطقة ما فإن جميع سكانها يرحبون جداً بمجيئه، لأنه رجل كريم ومعطاء يحب الخير للجميع، فتراه ينفق على سكان تلك المناطق ويعمر لهم الأراضي ويبني لهم المنشآت والمرافق التحتية والخدمية».

وقال: «الجمعة هي أهم صفة كانت تتميز بها رحلات مقناص الشيخ زايد، رحمه الله، فمعظم حكام الإمارات السبع وأبناء الشيخ زايد يحرصون على الوجود ضمن المشاركين في رحلات القنص، وأذكر أنه في عام 1987 ذهب معنا معظم أبنائه، وهم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وسمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، ممثل صاحب السمو رئيس الدولة، وسمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، ممثل حاكم أبوظبي في منطقة الظفرة، وسمو الشيخ هزاع بن زايد آل نهيان، نائب رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي، والفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية».

صير بني ياس

وقال: إن الشيخ زايد شرع بنفسه في زراعة جزيرة صير بني ياس، حيث كان يقوم مع مرافقيه بزراعة وسقاية المنطقة ليلاً ونهاراً باستخدام الجرافات، ونظراً لحرصه على زرع هذه الثقافة في نفوس أبنائه، كان المغفور له يحضر أبناءه إلى المنطقة، لتعليمهم ومشاركتهم مهام زراعة المنطقة، في ذلك الوقت عكف الشيخ زايد على تشجيعنا وتعريفنا بأهمية الزراعة ودورها الحيوي في الحفاظ على النظام البيئي واستمرارية الحياة لسكان المنطقة، فكان يوجهنا ويعلمنا الأساليب المثلى لاستصلاح الأراضي وزراعتها، وكان المصور« محمد أبو راكان» يتابع إجراءات زراعة المنطقة ويصورها بالكاميرا، ويوثق جميع الأحداث التي صاحبت زراعة منطقة جزيرة صير بني ياس.

وقال: «لكونه الوالد والقائد الملهم، فقد حرص جميع من رافقوا الشيخ زايد على دعوته لزيارتهم في منازلهم والتعرف إلى أفراد أسرهم عن قرب، وعندما طلبت منه زيارتي في مزرعتي رحب، رحمه الله، بالدعوة، وهذه صورة من صور التواضع والإنسانية والكرم التي رسخها في نفوس جميع أبناء الإمارات، وهي جانب من القيم الإنسانية النبيلة التي تزين بها الشيخ زايد»، وتابع: دأب الشيخ زايد على زيارة الأهالي وسكان المناطق والمدن على مستوى الدولة بصورة مستمرة، حيث حظي المغفور له لما تميز به من عطاء ومصداقية وحكمة في القول والمواقف، بتقدير محلي ودولي كبيرين، فكان القائد والمرشد لأبناء الوطن والمنطقة وأحد أبرز الزعماء الذين يتصفون بالحكمة وبُعد النظر والحنكة.

قدرات

وقال: خلال فترة عملي أستطيع أن ألخص الإنجازات الكبيرة التي حققها المغفور له، في أنه امتلك موهبة وعبقرية وهبها الله عز وجل له دون غيره، استطاع من خلالها أن يتخذ قرارات في أحلك الممرات التاريخية للبلاد، وأن يجتاز بحكمة ورجاحة عقل إلى أن وضع اسمه بجدارة وسط ألمع العظماء والزعماء التاريخيين، متصدراً القائمة بما أنجز وبما حقق لدولة الإمارات خلال فترة قصيرة من عمرها، وتابع: جميع من عايشوه ورافقوه عن قرب اتفقوا أن المغفور له كان رمزاً تاريخياً بكل المقاييس وعلامة فارقة في تاريخ البشرية، وسيظل اسمه محفوراً بحروف من ذهب، صانعاً لدولة الإمارات مستقبلاً آمناً وحاضراً زاهراً لأجيال شعب الإمارات على مدار الزمان.

الرحيل والصدمة

يقول زايد المزروعي: شكّل رحيل الشيخ زايد، رحمه الله، صدمة كبيرة لكل إنسان إماراتي وعربي وأجنبي لما له من أيادٍ بيضاء يشهدها القاصي والداني، فالبشرية جمعاء لن تنسى إطلاقاً مواقف الراحل الكبير نحو قضاياهم، وحرصه على مدّ يد العون لكل محتاج، لكن كما يقول المثل «اللي خلف ما مات، وزايد عايش في قلوبنا ما يموت».

Email