وثق مسيرة نهضة الإمارات ورحلات المغفور له حتى وفاته

محمد الخالدي «بوراكان»..34 عامــاً بالصوت والصورة مع زايد

ت + ت - الحجم الطبيعي

العظماء لا يرحلون لأنهم يتركون من طيب ذكرهم ما يبقى خالداً أبد الدهر، وتتناقل الأجيال سيرتهم غضّة حيّة كما لو أنهم يعايشونها لحظة بلحظة..

والمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، كان قامة إنسانية باسقة، يفوح عطره على كل من عاصره، فأصبحت يومياته معهم كنزاً ثميناً يتناقلونه بين أبنائهم وأحفادهم ميراثاً عزيزاً يستقون منه ما يهتدون به في الحياة..

هذه صفحة يومية لأناس عاصروا الشيخ زايد بن سلطان يروون أحاديث الفكر والقلب والوجدان ممزوجة بعبق المحبة الغامر.

محمد الخالدي الملقب بـ «بو راكان» المصور الخاص للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان ـ طيب الله ثراه ـ رافق الشيخ زايد 34 عاماً وشهد الكثير من الأحداث والمواقف التي مرت بمسيرة النهضة الحضارية للدولة، ووثق رحلاته وجولاته ومجالسه منذ عام 1970 وحتى وفاته.

قدم من الأردن إلى أبوظبي في عام 1970 لإنجاز مهمة محددة لمدة شهر واحد وهي تصوير رحلة قنص للشيخ زايد في باكستان، إلا أن الرحلة تأجلت لأسباب خاصة، فمكث في الإمارات طوال حياته حيث طلب منه الشيخ زايد أن يبقى في أبوظبي وأن يلتحق بالتليفزيون لتأسيس قسم السينما.

ويعود «بوراكان» بالذاكرة إلى نحو 48 عاماً وبالتحديد في عام 1970 وهي المرة الأولى التي جاء فيها من الأردن، بناء على طلب من الدكتور محمد الخطيب الذي كان رئيساً لتليفزيون أبوظبي وكان يعرفه بحكم عمله في التليفزيون الأردني، ويتذكر بوراكان عندما وصل إلى المطار بالقرب من منطقة البطين واستقل سيارة سارت به عبر طريق طويل غير معبد محاط بالكثبان الرملية وعلى حافتي الطريق وضعت براميل لإرشاد السائقين حيث لا توجد إنارة أو أسفلت في هذا الوقت، إلى أن وصل إلى منطقه مدينة زايد في قلب العاصمة أبو ظبي.

يقول بوراكان: «نزلت من السيارة في ساحة يقام فيها عرس وكان الشيخ زايد ـ طيب الله ثراه ـ وعدد من الشيوخ والوزراء يجلسون بجواره ولم أكن أعرفه في ذلك الوقت، إلا أنهم جاءوا بكاميرا سينما وطلبوا مني تصوير الشيخ زايد والعرس، وعندما بدأت في التصوير لمحت الشيخ زايد تعلوه الهيبة والوقار، ويلوّح لي بيده بأن أقترب وعندما دنوت من سموه سألني عن أحوالي وعن بلدي وعندما أخبرته أنني من غزة وأعمل في التلفزيون الأردني سألني عن أسرتي وأبناء غزة بعد الاجتياح الإسرائيلي فأخبرته بأنني لم أتمكن حتى الآن من زيارتهم وهنا احتضنني وربت على كتفي بعد أن رأى الدموع في عيني.. وهذا الموقف لن أنساه ما حييت.

حس فني

كان الشيخ زايد ـ طيب الله ثراه ـ يمتلك حسّاً فنياً متعمقاً، يشعرك بأنه تعمق في دراسة فن التصوير التليفزيوني والفوتوغرافي فكان أحياناً يوجهني بالوقوف في مكان وزاوية معينة للتصوير وبعد مشاهدة الفيلم كنت أتعجب من قدرته ـ طيب الله ثراه ـ على اختيار الزاوية الأفضل للتصوير، وأذكر أن الشيخ زايد أراد أن يوثق رحلة لأبنائه الصغار في جولة على الجمال تنطلق من قصره في العين والسير باتجاه جنوب الخزنة، وكنت أحمل معي في ذلك الوقت كاميرا «بوليكس» تصور لمدة دقيقتين ونصف الدقيقة للفيلم الواحد، وكان، رحمه الله، يستقل سيارة وبصحبته مرافق عسكري واثنان من أصدقائه، وكنت أقوم بالتصوير وإذا بالشيخ زايد يتوقف ويطلب مني الصعود للسيارة، ويطلب من السائق التقدم إلى المقدمة ويقول لي انزل هنا وابدأ اللقطة بقدوم الجمال إلى أن تختفي، وتارة أخرى يطلب مني أخذ لقطة من مكان مرتفع لإظهار الأبناء وهم يمتطون الجمال وهكذا كنت في كل مرة أنفذ كل ما يطلبه مني وكان يشعرني بأنه مخرج متمرس وفي نهاية المطاف حصلت على فيلم من أروع ما صورت في حياتي.

ويتذكر بو راكان أن الشيخ زايد ـ طيب الله ثراه ـ استفسر منه ذات مرة عن أفضل أنواع الأفلام والكاميرات وأفضل الصور هل هي البعيدة أم المتوسطة أم القريبة التي تظهر الوجه فقط، فقلت: من المفترض أن يكون نوع الصورة بحسب الموقف الذي تعبر عنه، إلا أن أفضل الصور هي التي لا تكون بعيدة جداً أو قريبة جداً فضحك ـ رحمه الله ـ وقال: يعني أفضل الصور أوسطها.

وقال إن الشيخ زايد ـ طيب الله ثراه ـ كان يحب أن تكون الصورة واضحة المعالم والتفاصيل والأبعاد وأن تتضمن رؤية فنية، فلم تكن تعجبه الصور التي لا تتضمن تلك الأشياء، أو التي تنطوي على مبالغة في الإضاءة أو الظل.

وسألت بوراكان عن صورة شهيرة جداً للشيخ زايد ـ طيب الله ثراه ـ وهو يمتطي صهوة جواد أبيض، فقال هذه الصورة التقطت في لندن من قبل المصور محمد بدر، وأنا التقطت للمغفور له مجموعة من الصور المماثلة.

ويضيف بوراكان: كان الشيخ زايد ـ طيب الله ثراه ـ يعشق التصوير الفوتوغرافي وكنت أراه يحمل كاميرا صغيرة في رحلات الصيد أو في اسطبلات الخيول ويلتقط صوراً للخيل وللطبيعة، وكثيراً ما التقطت له صوراً وهو يحمل الكاميرا، وفي إحدى المرات أثناء تحليقنا بطائرة هليكوبتر فوق جزيرة صير بني ياس أخذ مني الكاميرا وظل يتابع الحيوانات في الجزيرة ويقول لي إن عدسات الكاميرا تقرب الصورة مثل «الدربيل» التليسكوب، وعندما قلت له هناك كاميرات حديثة بعدسات أكثر دقة فطلب مني إحضارها على الفور حيث كنا نصور في البداية بعدسات 240 أو 300 ملم ثم أحضرنا عدسات 500 و1000ملم.

ويتذكر بوراكان، الذي سلّم الأرشيف الوطني ما يزيد عن 57 ألف ساعة وثقت جولات ورحلات وأنشطة الشيخ زايد على مدار 34 عاما، يتذكر رحلات الصيد التي كان يرافق فيها الشيخ زايد ـ طيب الله ثراه ـ ويقول كان رحمه الله عندما نهم بتصوير الصيد يقول لي تذكر بوراكان أن لكل «هدّة» أي عملية صيد مراحل متسلسلة حتى يظهر الصيد مشوقاً وجميلاً للمشاهدين، فلا بد أن يبدأ تصوير الهدّة بخروج الطير من يد الصقار وتحليقه في الجو ثم تبدأ في تصوير المرحلة الثانية وهي «الروغ» أي مطاردة الصقر للفريسة وتنتهي اللقطة بالعزل أي تخليص الحبارى أو الفريسة من مقابض الصقر وبذلك تكون الهدة كاملة ومشوقة للمشاهد.

ويقول بو راكان كنا نحرص في المونتاج على تطبيق هذه المراحل وبالفعل كانت تحظى باستحسان المشاهدين عندما يتم بثها فور عودتنا من الرحلة التي كانت تستغرق من شهر إلى شهر ونصف فلم يكن في الإمكان في ذلك الوقت إرسال أو بث هذه الأفلام إلا بعد العودة من الرحلة.

مواقف إنسانية

تحدث محمد الخالدي عن الجانب الإنساني الذي كان يلمسه في شخصية الشيخ زايد فقال: كان، رحمه الله، يشع خيراً وبركة في حله وترحاله فإذا أقام في منطقة ما في أي مكان في العالم فلا بد أن يسأل عمن يسكن فيها وعن احتياجات السكان في هذه المنطقة، فإذا كان السكان يفتقدون إلى المياه الصالحة للشرب يأمر بحفر الآبار فوراً، وإذا كانوا يحتاجون للمساكن أو للمساجد أو العيادات طبية يأمر بإنشائها فورا.

كان، رحمه الله، يحب أن يستقر السكان في منطقتهم التي نشأوا فيها وأن يستغلوا كل الموارد المتاحة لتنميتها وتطويرها وتعميرها وكانت أياديه البيضاء تعطف على الجميع دون أن ينظر إلى دين أو عرق أو لون، حيث كان ينظر فقط بعين الإنسان لأخيه الإنسان. ويتذكر بوراكان موقفاً للشيخ زايد يلخص حكمته وبعد نظره الثاقب عندما نشب خلاف بين بعض القبائل في المناطق الشمالية على بئر مياه وحصلت مناوشات على أحقية البئر، وعندما علم الشيخ زايد بالأمر ذهب إلى هناك والتقى بالحكام، وقال: كيف نختلف على بئر مياه وننسى أن ندعو الله أن يرزقنا من فضله، وأمر على الفور بإرسال معدات الحفر من أبو ظبي وبدأت بحفر 10 آبار، 5 في كل جانب وحُلت المشكلة فوراً.

169 سداً

في منتصف التسعينيات أمر الشيخ زايد ـ طيب الله ثراه ـ ببناء 169 سداً في المناطق الشمالية والعين للاحتفاظ بمياه الأمطار وزيادة المياه الجوفية في الدولة ومنع هدرها في البحر، ويقول بو راكان كنت أسافر إلى المناطق التي تشيد فيها تلك السدود وأقوم بتصويرها بمعدل مرتين في الشهر حتى اكتملت جميعها وعندما كنا نقوم بعرضها في التليفزيون كنت أشاهد الشيخ زايد تغمره السعادة برؤية تلك السدود في التليفزيون وهي تحتفظ بمياه الأمطار.

سيرة ذاتية

ولد محمد الخالدي ونشأ ودرس في قطاع غزة وعندما أنهى دراسته الثانوية انتقل إلى القاهرة والتحق بكلية الفنون التطبيقية سنة 1968 بقسم التصوير السينمائي والفوتوغرافي وكان أول طالب من القطاع يلتحق بهذه الكلية التي كانت مخصصة لأبناء علية القوم في مصر آنذاك. ساهم بو راكان في تطوير العمل في تليفزيون أبوظبي منذ عام 1970 وأنشأ قسم السينما وقام بتدريب العديد من الكوادر الوطنية.

Email