الحكمة والأمثال والبلاغة عند العرب (29)

الغبطة .. الكفاية مع لزوم الأوطان

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.

 

شهر رمضان الكريم يشرف على الانقضاء ويهم بالرحيل، بعد أن استمتعنا بأجوائه الروحانية ووجدانياته الحميمة ولقاءاته المثمرة المفيدة، نأمل أن يستجاب دعاؤنا بأن تتقارب النفوس وتتلاشى الخلافات ونعيش أمة عربية واحدة، فرمضان شهر التسامح والعفو والمحبة والتآخي والتعاون. ولنتق الله في أنفسنا ونتحد على كلمة الله وحب الوطن.. المحلي والاقليمي، أي.. من الماء وإلى الماء.

نحن على أبواب العيد، ولن نكرر مقولة.. (عيد بأية حال عدت يا عيد...)، بل بالترحيب والتهليل سنستقبل العيد.. فأهلاً به، لترتسم ابتسامة الأمل على شفاه كل طفل عربي، فقد آن الوقت أن نتفاءل بمستقبل أفضل، وجل ما يتمناه المرء أن لا يوجد فقير بيننا ولا فرد بلا مأوى، وأن تسلم أوطاننا من كل سوء ومن كل شر، وأن تبقى عزيزة منيعة كريمة مستقرة حرة.

وشخصيا لا أحب الوداع مطلقا وأجدني اليوم مضطراً للوداع مرتين، مرة لوداع رمضان والاخرى لوداعكم، أيها الأعزاء.

وموضوع اليوم يتناول اللقاء والفراق والاستقبال والوداع.

اللقاء والفراق

 

ما أطيب اللقاء وما أصعب الوداع، قيل في لحظة الوداع هي كبدي من عيني سالت، وعند اللقاء هي روحي التي قالت: أهلاً وسهلاً ومرحبا.

قال الشاعر: لما أناخوا قبيل الصبح عيسهمُ/ وحمَّلوها وسارت بالدمى الإبلُ/ وقلبت بخلال السجف ناظرها/ يرنو إليَّ ودمع العين ينهملُ/ وودعت ببنان زانه عنم/ ناديت لا حملت رجلاك يا جملُ/ يا حادي العيس عرِّج كي أودعهم/ يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ/ إني على العهد لم أنقض مودتهم/ يا ليت شعري لطول البعد مافعلوا.

(بالدمى: يقصد النساء. السجف: الستر. العنم: شجرة لها ثمرة حمراء)

وقيل: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى بلدها تواقة، وإلى مسقط رأسها مشتاقة.

وأحسن ما قال الشاعر: بلاد ألفناها على كل حالة/ وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن/ ونستعذب الأرض التي لا هواء بها/ ولا ماؤها عذب ولكنها وطن.

فكيف إذا صار الوطن وجهة الأنظار، ومقصد الأسفار، ومركز التجار، حفظ الله لنا وطننا.

الغبطة

 

قيل لأعرابي: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان.

أراد أعرابي السفر فقال لامرأته: عدي السنين لغيبتي وتصبري/ وذري الشهور فإنهن قصار.

فأجابته: فأذكر صبابتنا إليك وشوقنا/ وأرحم بناتك إنهن صغار. فأقام وترك السفر. وقيل في المثل: رب ملازم لمهنته فاز ببغيته.

الفوز بالمسرة

 

يقول أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي 303 ـ 354 هـ

يا من يعز علينا أن نفارقهم/ وجداننا كلَّ شيءٍ بعدكم عدمُ.

قال أحد الشعراء: والعين تقطر من فراق أحبتي/ هذا الفراق متى يكون الملتقىَ/ يا هل ترى الأيام تجمع شملنا/ ونفوزُ منها بالمسرةِ واللقا/ إني لراضٍ بالغرام وهمه/ حيث السعادة في الهوى عين الشقا.

وعن الفراق يقول جبران خليل جبران: وهنا جاء المساء، فقيل: طوبى لهذا اليوم، ولهذا المكان، ولروحك التي تكلمت.

فأجاب قائلاً: هل أنا هو الذي تكلم؟ أما كنت من السامعين أيضاً؟

عندئذ هبط الدرجات فتبعته الجموع، ولما بلغ سفينته وقف على ظهرها، وإذا نظر إلى الجموع ثانية، رفع صوته قائلاً: الريح تأمرني بالرحيل عنكم، أقل عجلة في الريح أنا، لكنني يجب أن أنصرف، فنحن الهائمون على وجوهنا، الناشدون أبداً أقفر الطرق. قصيرة كانت أيامي بينكم، وأقصر منها كانت الكلمات التي قلتها.

وقيل: ودعتها ويدي اليمين لأدمعي/ ويدي اليسار لضمة وعناق/ قالت أما تخشى الفضيحة قلت لا/ يوم الوداع فضيحة العشاق.

قال ذو القرنين التغلبي الذي تولى إمرة دمشق وتوفي في مطلع القرن الخامس الهجري: لو كنتَ ساعة بيننا ما بيننا/ وشهدتَ حين نكررُ التوديعا/ أيقنت أن من الدموع محدثاً/ وعلمتَ أنَّ من الحديث دموعا.

وقيل في تفضيل اللقاء على الوداع: لله در مبشري بقدومكم/ فلقد أتى بلطائفِ المسموعِ. ويقول الهادي آدم: أغد ألقاك يا خوف فؤادي من غدٍ/ يا لشوقي واحتراقي بانتظار الموعد.

ما جاء بـ (ليس)

 

ليس لعينٍ ما رأت ولكن ليدٍ ما أخذت، و.. ليس لِما قرت به العين ثمن، و.. ليس لملولٍ صديق، و.. ليست مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع فائدة، و.. ليس بمنكر سَبْق الجواد.

تقول العرب: وليس فتى الفتيان من راح واغتدى/ لشرب صبوح أو لشرف غبوقِ/ ولكن فتى الفتيان من راح واغتدى/ لضر عدوٍّ أو لنفع صديقِ.

وقيل: ليس لحسود غنى، و.. ليس للحاسد إلا ما حسد، و.. ليس في الحب مشورة، و.. ليس الجمال بالثياب، و.. ليس على الإنسان إلا ما ملك، و.. ليس الحريص بزائد في رزقه، و.. ليس في التصنع تمتع ولا مع التكلف تطرف.

قال الشاعر: ولستُ وإن قربت يوماً ببائع/ بلادي ولا ديني ابتغاء التحببِ.

ما قيل بـ (كل)

 

قيل: لكل أناس في بعيرهم خبر (أي كل قوم يعلمون من صاحبهم ما لم يعلم الغرباء).

لكل ساقطة لاقطة. الساقطة: الكلمة يسقط بها الإنسان أي لكل كلمة يخطئ فيها الإنسان من يتحفظها فيحملها عليه، واللاقطة بمعنى المبالغة (ويضرب هذا المثل في التحفظ عند النطق).

لكل غدٍ طعام (يضرب في التوكل على فضل الله). كل شاة برجلها معلقة (أي: لا يؤخذ الرجل بغير ذنبه)، و.. كل شاة برجلها ستناط، و.. كل خاطبٍ على لسانه تمرة، (ويضرب للذي يلين كلامه إذا طلب حاجة)، و.. كلما كثر الذباب هان قتله، و.. كل اغتياب جهدُ من ليس له جهد، و.. لكل شيء سبب، وبهذا المعنى قال الشاعر: أدور ولولا أن أرى أمَّ جعفرٍ/ بأبياتكم ما درت حيثُ أدورُ، و.. كل ما يفعل المحبوبُ محبوبٌ، و.. لكل زمان تدبير ولكل شي مقدار، و.. كل شيء ممنوع مرغوب.

وبهذا المعنى قال الشاعر: وزادها كلفاً بالحب أن مُنعت/ أحب شيء إلى الإنسان ما مُنعا/ يقال: كل مُجر بالخلاء يُسَرُّ. والمعنى: أن الذي يجري فرسه في المكان الخالي فهو يُسر بما يرى. وقيل.. كل شيء يبدأ صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة تبدأ كبيرة ثم تصغر، و.. لكل نوبة غرس ولكل بناء أسس وعند كل مأتم عرس، و.. كل كلب ببابه نباح. كل امرئ فيه ما يرمي به، و.. كل ما قرت به العين صالح، و.. كل لياليه لنا حنادس، و(الحنادس بمعنى شديد الظلمة)، و.. كل غريب للغريب نسيب. كل فتاة بأبيها معجبة (يضرب في عجب الرجل لعشيرته)، و.. لكل جواد كبوة ولكل عالِم هفوة.

حزمة من كل

 

قال الشاعر: لكل داء دواء يستطب به/ إلا الحماقة أعيت من يداويها. و.. ما كل ما يلمع ذهب، و.. ما كل أصفر دينار، و.. ما كل برق ممطر، و.. ما كل من ركب فرسا خيال، و.. ما كل من صف الصواني قال أنا حلواني، و.. ما كل طير غنى بلبل.

وما كل أيام المشيب مريرةٌ/ ولا كل أيام الشباب عذابُ. قال الشاعر: ما كل نسلِ الفتى تزكو مغارسُهُ/ قد يفجع العودُ بالأوراقِ والثمرِ.

ما كل رقبة تحسن فيها القلائد، و.. لا كل نفس تحتمل عليها الفوائد، و.. ما كل دام جبينه عابد، و.. ما كل بيضاء شحمة، و.. ما كل مرة تسلم الجرة.

نادرة صوم الناس يوم الفطر

 

قال أحدهم: رأينا هلال شوال، فأتينا للقاضي للشهادة عنده، فقال لنا الكاتب عنده: (أنتم مجانين! القاضي لم يتحنَّ بعد ولم يتهيأ للعيد، والله إن لم تنصرفوا ليضربنكم مئتين). فانصرفنا على عجلة من أمرنا، وصام الناس يوم الفطر.

القاضي والإسكافي

 

سلم أحد القضاة نعله إلى إسكافي ليصلحه، فكان كلما جاء إلى الإسكافي يطلب منه نعله يقول له: تعال بعد ساعة، ثم يأخذ النعل فيضعه في الماء، وتكرر العمل من الإسكافي مرات كثيرة فقال له القاضي: يا هذا، إني جئتك بالنعل لتصلحه لا لتعلمه السباحة.

نسيِ فحيَّا

 

صعد قاضٍ محدث المنبر ليخطب في الناس، فنسي ولم يعرف ماذا يقول، فنظر إلى وجوه الحاضرين وقال: حيا الله هذه الوجوه وجعلني فداءها، ثم نزل.

أريد أن أسلم على يدك

 

جاء بعض النصارى إلى أحد الولاة، وكان معروفاً بالحمق، فقال أريد أن أُسلم على يدك. فقال: (يا ابن كذا)! ما وجدت في عسكر أمير المؤمنين أهون مني؟ جئت تريد أن تلقي بيني وبين عيسى بن مريم عليه السلام كلاماً إلى يوم القيامة.

نوادر الأعراب

 

(اللهم اغفر لأمي) كان أعرابي يقول في الطواف: اللهم اغفر لأمي، فقيل له: مالك لا تدعو لأبيك، قال: ذلك رجل يحتال لنفسه وأما أمي فقيرة مسكينة لا تقدر على شيء.

جعلني الله فداك

 

دخل أعرابي يزور مريضاً فقال له: كيف أصبحت جعلني الله فداك، قال: (على الموت) قال: إذن لا جعلني الله فداك، فقد ظننت أن في الأجل فسحة.

أعرابي في خطبة نكاح

 

خطب رجل خطبة نكاح وأعرابي حاضر، فقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأتوكل عليه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فقال الأعرابي: لا تقم الصلاة، يرحمك الله، فإني على غير وضوء.

اغفر لي بسرعة

 

حج أعرابي فدخل البيت أول واحد قبل كل الناس وتعلق بأستار الكعبة وقال: اللهم اغفر لي بسرعة قبل أن يتكاثر علينا الناس.

لقد هجانا

 

سمع أعرابي قارئاً يقرأ القرآن، حتى أتى على قوله تعالى: (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً) (سورة التوبة). فقال: لقد هجانا ثم بعد ذلك سمعه يقول: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر). (سورة التوبة) فقال: لا بأس هجانا ومدحنا.

وداع على مضض

 

حديث الأمثال البليغة والأقوال المأثورة والطرائف والمواقف والنوادر شيق ويطول وقد لا ينتهي ولا يُمل طالما هو معكم أعزائي القراء، ولكن لكل شيء نهاية، فأرجو أن أكون قد وفقت في جمع وطرح هذه الحزم من الحكم والأمثال من بلاغة العرب، آملا أن تكونوا قد استمتعتم بهذه المساحة طوال شهر رمضان الكريم، وإلا فاعذروني إن كنت قد قصرت بحقكم. وكل عام وأنتم بخير إن كان الغد عيداً، وإن لم يكن فلنا لقاء أخير بإذن الله.

Email