الحكمة والأمثال والبلاغة عند العرب (26)

إذا ابتسمت لك الأيام اكسبها والتلطف بالحيلة أنفع من الوسيلة

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.

 

قال المثل: إذا ابتسمت لك الأيام اكسبها.

قال الشاعر: إذا دَرَّت نياقك فأحتلبها/ فما تدري الفصيل لمن يكون.

وقال شاعر آخر: فرصتك اليوم فأغتنمها/ فكل وقتٍ سواه فاني.

وهذا يشبه قول: بادر إلى العيش والأيام راقدةٌ/ ولا تكن لصروف الدهر تنتظرُ/ فالعمرُ كالكأس يبدو في أوائله/ صفوٌ وآخره في قعرهِ الكدرُ.

الحكمة والصبر

 

وسارع إلى مارمت مادمت قادراً/ عليه فإن لم تبصر النجح فأصبرِ/ ولا تأتِ أمراً لا ترجىَ تمامه/ ولا مورداً ما لم تجد حسن مصدرِ/ ولا تغترر تندم ولاتكُ طامعاً/ تذل ولا تحقر سواك تُحقرِ/ ولا تتعرض لاعتراض عليهم/ دع الخلق للخلاقِ تسلم وتؤجرِ.

قالوا عن الثقلاء

 

قال الأعمش: فما الفيلُ تحمله ميتاً/ بأثقل عن بعضها جلاسنا.

وكان الأعمش معروفاً بشدة الضجر والتثاقل من الناس، خاصة أولئك الذين يزورونه في بيته. وذات يوم لقيه الإمام أبو حنيفة النعمان فقال له: لولا أنني أخاف أن أُثقل عليك لكنت أكثرت من زيارتك.

فأجابه الأعمش: إياك أن تفعل، فإنك ثقيل عليَّ والله وأنت في بيتك.

قال الشاعر: أنت يا هذا ثقيل/ وثقيلٌ وثقيلُ/ أنت في المنظر إنسا/ نٌ وفي الميزان فيلُ.

وقيل: إذا حل الثقيل بأرضِ قومٍ/ فما للسكانين سوى الرحيل.

نوادر المعلمين

 

قال الجاحظ: الَّفت كتاباً في نوادر المعلمين وماهم عليه من التغفل ثم رجعت عن ذلك، وعزمت على تقطيع ذلك الكتاب فدخلت يوماً مدينة فوجدت فيها معلماً في هيئة حسنة فسلمت عليه فرد عليَّ أحسن رد، ورحب بي فجلست عنده وباحثته في القرآن، فإذا هو ماهر فيه، ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المنقول وأشعار العرب فإذا هو كامل الآداب. فقلت: هذا والله مما يقوي عزمي على تقطيع الكتاب، قال: فكنت أختلف إليه وأزوره فجئت يوماً لزيارته فإذا بالكتاب مغلق ولم أجده جالساً فسألت عنه فقيل: مات له ميت فحزن عليه وجلس في بيته للعزاء، فذهبت إلى بيته وطرقت الباب فخرجت إليَّ جارية وقالت: ما تريد؟

قلت: سيدكِ، فدَخَلَت وخَرَجت وقالت: باسم الله، فدخلتُ إليه وإذا به جالس فقلت: عظَّم الله أجرك، فعليك بالصبر، ثم قلت له: هذا الذي توفى ولدك؟ قال: لا. قلت: فوالدك؟ قال: لا. قلت: فأخوك؟ قال: لا. قلت: فزوجتك؟ قال: لا. فقلت: وما هو منك؟ قال: حبيبتي. فقلت في نفسي: هذه أول المناحس، فقلت: سبحان الله النساء كثير وستجد غيرها، فقال: أتظن أني رأيتها؟ قلت: وهذه منحسة ثانية. ثم قلت: وكيف عشقت من لم تر؟ فقال: اعلم أني كنت جالساً في هذا المكان وأنا أنظر من الطاق إذ رأيت رجلاً عليه برد وهو يقول: يا أم عمرو جزاكِ الله مكرمة/ ردي عليَّ فؤادي أينما كان/ لا تأخذين فؤادي تلعبين به/ فكيف يلعب بالإنسان إنساناً.

فقلت في نفسي لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر، فعشقتها فلما كان منذ يومين مر ذلك الرجل بعينه وهو يقول: لقد ذهب الحمار بأمِ عمرو/ فلا رجعت ولا رجع الحمارُ.

فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها واغلقت المكتب، وجلست في الدار. فقلت: يا هذا إني كنت ألفت كتاباً في نوادركم معشر المعلمين وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه، والآن قد قويت عزمي على إبقائه، وأول ما أبدأ بك إن شاء الله تعالى.

الجاحظ والمعلم

 

ومن نوادر الجاحظ مع المعلمين أنه قال: رأيت معلماً في الكتَّاب وحده فسألته فقال: الصغار داخل الدرب يتصاعدون. فقلت: أحب أن أراهم. فقال: ما أشير عليك بذلك، فقلت: لابد. قال: فإذا جئت إلى رأس الدرب اكشف رأسك لئلا يعتقدونك المعلم فيصفعونك. وحكي عن الجاحظ أنه قال: مررت على خربة فإذا بها معلم وهو ينبح نبيح الكلاب، فوقفت أنظر إليه وإذ بصبي قد خرج من دار فقبض عليه المعلم وجعل يلطمه ويرفسه ويسبه، فقلت: عرفني خبره. قال: هذا صبي لئيم يكره التعليم ويهرب ويدخل الدار ولا يخرج وله كلب يلعب به، فإذا سمع صوتي ظن أنه صوت الكلب فيخرج فأمسكه.

الفضل والحق

 

من ناحية أخرى قال الشاعر: وإذا المعلمُ لم يكن عدلاً مشى/ روح العدالةِ في الشباب ضئيلا.

وقال آخر: فلا تبخسن حق المعلم إنه/ عظيم كحق الوالدينِ وأعظمُ.

الكلب في أدب العرب

 

الكلب ونباحه متعمق ومتجذر في الأدب العربي وعند الأعراب، فنباح الكلب من علامة كرم الضيافة والجود، ولدى العرب أمثال كثيرة تضرب في هذا المخلوق.

يقال: كلب يعوي لك ولا كلب يعوي عليك (المعنى اكسب العدو إلى جانبك). ولا يضر السحاب نباح الكلاب (المعنى لا يضر الكرام كلام السفهاء). وربيته جرواً فصار كلباً عضني (المعنى لمن ينسى النعمة ويصبح لئيماً).

قال الشاعر: وهم سمَّنوا كلباً ليأكل بعضهم/ ولو علموا بالحزم ماسمَّنوا الكلبا.

قيل: دع القافلة تسير ودع الكلب ينبح. وما كل كلب نبح ألقمته حجراً. واضرب كلبك يتربَّ ابنك (للتهديد).

قال الشاعر: تسطو الكلاب على اسد الشرى سفها/ والبازُ الاشهب يخشى صولة الحجلِ.

المعنى: الجاهل هو الذي ينقاد وراء جهله سفهاً وأما العاقل فهو الإنسان الحكيم الذي يقدر الأمور ويقيسها بالحكمة، فالصقر يعتبر من صولة العصفور الصغير.

الحاح المطر

 

يقال: الكلاب لا تنبح السحاب إلا من الحاح المطر.

وقيل: وما لي لاغزو وللدهرِ كرة/ وقد نبحت نحو السماء كلابُها.

قال الشاعر: تعدو الذئاب على من لا كلاب له/ وتتقي صولة المستأسدِ الضاريِ.

(المعنى: لا يتجرأ العدو على مهاجمة من استعد للدفاع عن نفسه، ولكنه يهاجم من لا عون له ومن لم يستعد).

عجب الاعرابي

 

قال أحد الاعراب: مالك لا تنبحُ يا كلبَ الدومِ/ قد كنت نباحاً فما بال اليوم.

والقصة أن رجلاً أعرابياً كان ينتظر عيراً له، فكان إذا جاءت العير نبح الكلب، فاحتبست عليه ذات مرة، وكالمنتظر المستبطئ قال: مالك لا تنبح (أي مال العير لا تأتي).

قيل: لا تقتنِ من كلب سوء جرواً، وكيف بغلام أعياني أبوه، وترجو الوليدَ وقد اعياك والده/ وما رجاؤك بعد الوالدِ الولد.

وهذا يشبه قوله: ينشأ الصغير على ما كان والده/ إن الأصول عليها ينبت الشجرُ.

ويشبه ايضاً: ما ينبت العود إلا في أروقته/ ولا يكون الجَني إلا من العودِ.

وهذا يشبه قول: لُذ بالكرامِ بني الكرام فإنما/ تلد الكرامُ بنو الكرام كراما/ ودع اللئامَ بني اللئام فإنما/ تلد اللئام بنو اللئامِ لئاما.

قال المتنبي: أيا أسداً في جسمهِ روحُ ضيغم/ وكم اسدٍ أرواحهن كلابُ.

(الضيغم اسم آخر للأسد)

حكاية وفاء كلب

 

خرج رجل إلى البادية ومعه أخوه وجاره فتبعه كلبه فضربه ورماه بحجر فلم ينته ولم يرجع، وفي الطريق جاء عدو له في طلبه، فلما رآه خاف على نفسه فإذا ببئر هناك ليست عميقة فنزل فيها وأمر أخاه وجاره أن يهيلا عليه التراب ثم ذهب أخوه وجاره إلى سبيلهما وصار الكلب ينبح حوله. فلما انصرف العدو اتاه الكلب ومازال يبحث في التراب إلى أن كشف عن رأسه فتنفس الرجل ومر به أناس فتناولوه وأرجعوه إلى أهله. عندما مات ذلك الكلب عمل له قبراً ودفنه فيه وجعل عليه قبه وسُمي ذلك قبر الكلب. وفي ذلك قيل: تفرق عنه جاره وشقيقه/ وما حاد عنه كلبه وهو ضاربه.

الوصف والبيئة

 

مدح الشاعر علي بن الجهم الخليفة المتوكل وقال فيه: أنت كالكلب في حفاظك للود/ وكالتيس في قِراع الخطوبِ/ أنت كالدلو لاعدمناك دلواً/ من كبار الدلا كثير الذنوبِ.

(الذنوب: يطلق على ما في الدلو من ماء).

الحيلة من فوائد الآراء

 

يقال إن الحيلة من فوائد الآراء المحكمة وهي حسنة ما لم يُستبح بها محظور، وقد سئل بعض الفقهاء عن الحيلة في الفقه فقالوا: علمكم الله ذلك فإنه قال: (وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث) سورة ص الآية 44.

عمر والهرمزان

 

والحرب خديعة. ولما أراد عمر بن الخطاب قتل الهرمزان (وهو أمير في الجيش الفارسي في معركة القادسية) استسقى ماء فأتوه بقدح فيه ماء فأمسكه في يده واضطرب. فقال له عمر: لا بأس عليك حتى تشربه، فألقى القدح من يده فأمر عمر بقتله. فقال: أو لم تؤمني؟ قال: كيف أمنتك. قال: قلت لا بأس عليك حتى تشربه، وقولك لا بأس عليك أمان، ولم أشربه، فقال عمر: قاتلك الله أخذت مني أماناً ولم أشعر.

الدهاة الأربعة

 

قيل كان دهاة العرب أربعة كلهم ولدوا بالطائف وهم: معاوية، وعمر بن العاص، والمغيرة بن شعبة، والسائب بن الاقرع.

ويقال: الحاجة تفتح أبواب الحيل، وليس العاقل الذي يحتال للأمور إذا وقع فيها، بل العاقل الذي يحتال للأمور أن لايقع فيها.

بين قيامي وقيامِ

 

ولما بايع الرشيد لأولاده بولاية العهد تخلف رجل معروف من الفقهاء فقال له الرشيد: لِمَ تخلفت؟ فقال: عاقني عائق، فقال: اقرأوا عليه كتاب البيعة، فقال يا أمير المؤمنين هذه البيعة في عنقي إلى قيامي الساعة، فلم يفهم الرشيد ما أراد وظن أنه إلى قيامِ الساعة أي يوم الحشر، وما أراد الرجل إلا قيامه من المجلس.

خديعة الغلام

 

وقال المغيرة بن شعبة: لم يخدعنِ غير غلام من بني الحارث بن كعب فإني ذكرت امرأة منهم لأتزوجها فقال: أيها الأمير لا خير لك فيها. فقلت: ولِمَ؟ قال: رأيت رجلاً يقبلها، فأعرض عنها، فتزوجها الفتى، فلمته وقلت: ألم تخبرني أنك رأيت رجلاً يقبلها؟ قال: نعم، رأيت أباها يقبلها.

الحيلة والحليلة

 

قال أبو العتاهية: إلهي لا تعذنبي فإني/ مقر بالذي قد كان مني/ وما لي حيلةٌ إلا رجائي/ لعفوك إن عفوت وحسنُ ظني.

قيل: أبيَن العجز قلة الحيلة/ وملازمة الحليلة. (الحليلة: الزوجة).

يقول الشاعر: لا يغرنك ما ترى من أنُاسٍ/ إنَّ تحت الضلوع داء دويا.

يقال: التلطف بالحيلة أنفع من الوسيلة. و.. تحت البراقع سم ناقع. و.. تحت السواهي دواهي. و.. يشعل النار ويصرخ حريق. و.. تمسكن حتى تمكن. و.. يقول للسارق اسرق ولصاحب الدار احرس.

وقيل: كل شيء يحتال فيه الرجال/ غير أن ليس للمنايا احتيالُ.

قال الشاعر: والاضعفُ الاصغرُ احرى بأن/ يحتال للأكبرِ بالفكرِ/ متى يرى عدوه قاهراً/ احوجه ذاك إلى المكرِ.

هذا والسلام عليكم. قاسم البيئات المشترك

 

زخر التراث العربي بالقصص والعبر والنوادر، منها ما ارتبط بالمواقف والبشر ومنها ما تعلق بالمخلوقات، ولعل أبرز قاسم مشترك مما تعلق بالمخلوقات في بيئات العربي قديما.. الصحراوية والساحلية والريفية والجبلية هو.. الكلب، وهو المخلوق الذي قيل فيه القصيد وضربت به الامثال، لارتباط العربي به واقتنائه له بالرغم مما جاء في الدين من اجتناب ملامسة الكلب وضرورة الطهارة فيما لو حدث ذلك.

و في هذه الحلقة أنقل لكم مجموعة من الموضوعات المتفرقة والمتنوعة مما وصلنا من تجارب السابقين ومن ابداعهم. ومن ذلك في اغتنام الفرصة أو انتهازها، وشتان بالطبع بين المعنى الأول والثاني، وقصص من وفاء الكلب.

Email