الحكمة والأمثال والبلاغة عند العرب (22)

مرويات من الأثر.. شدة تغيير الأطباع في الكبر

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.

 

ما زلت أجمع لكم من حقول البلاغة ومن عيون التراث تشكيلة من الأقوال والأشعار قيلت في موجودات الطبيعة وفي مواقف الحياة عبر التاريخ.

ومنها ما قيل في طائر الغراب، وهو الطائر الذي طالما نظر إليه من زاوية التطير والشؤم، بينما هو يمتاز بصفات قيس بها الجمال وضرب الوصف بها.

ومنه ما قال عنترة بن شداد: فيها اثنتان وأربعون حلوبة/ سوداً كخافية الغراب الأسحمِ

(الاسحم: شديد السواد).

قيل في مدح الغراب: العين قادحةٌ واليد سابحةٌ/ والأذنُ مصغيةٌ واللون غريبُ.

حتى يشيب الغراب

 

يقال: لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب، وتضرب للدلالة على بعد المراد وذلك للاعتقاد بأن الغراب لا يشيخ.

قال العرجي: لا يحولُ الفؤادُ عنه بودٍّ/ أبداً ويحولُ لون الغرابُ.

يقول ساعدة بن جؤية: شاب الغراب ولا فؤادك تارك/ عهد الغضوبِ ولا عتابك يُعتبُ.

يقال: فالغراب حد السكين والفأس، وفأس حديدة الغراب.

كل غراب يقال له غراب البين إذا أرادوا به الشؤم. أما غراب البين نفسه فهو غراب صغير الحجم.

 

حاتم من أسمائه

 

والغراب أيضاً يسمى حاتماً. وقيل: ما تعيف اليوم في الطير الروح/ من غراب البينِ أو تيس بَرَح.

يقال: إن بين الغراب والحمار عداوة. فيقول الشاعر: عاديتنا لازلت في تبابِ/ عداوة الحمارِ للغرابِ.

يقال: أغرب من غراب، ولكن.. أبصر من غراب، و.. أبصر من فرس، و.. أبصر من هدهد، و.. أبصر من عقاب.

ويقال: عداوة البوم للغراب. قال الشاعر: أشاقك والليل مُلقى الجِرانِ/ غرابٌ ينوحُ على غصنِ بانِ/ وفي نعباتِ الغراب اغترابٌ/ وفي البانِ بين بعيد التداني.

وقال آخر: ألا يا غراب البينِ لونُك شاحبٌ/ وأنت بروعات الفراقِ جديرُ.

سارق الصابون

 

قالوا للغراب ما لك تسرق الصابون، قال الأذى طبعي.

من لاحاك فقد عاداك

 

ويقال (الحاء أو الحي) الرجل، و(اللام) إذا أتى ما يُلام عليه، و(ُيلحى) من أجله، ويقال: لحيتُ الرجل إذا لمته، و(لحوت) العود إذا قشرته.

قال تأبط شراً: يا من لعذالة خذالة أشِب/ حَرَّق باللؤم جلدي أي تحراقِ.

وقيل: إذا لم يُرِدْ خِل إعانة خِله/ أتاه إذا نابَ المُلِمُ يُوَبَّخُ.

لو بغير الماء غصصت

 

ويضرب هذا المثل في الرجل الذي يؤتىَ من حيث يأمن

قال عدي بن زيد: لو بغير الماءِ حلقي شَرِقٌ/ كنتُ كالغصانِ بالماء اعتصاري.

والمعنى انه لو شرقت بغير الماء لكان لجأت إلى الماء.

قال آخر: إلى الماء يعدو من يغص بلقمةٍ/ إلى أين يعدو من يغصُ بماءِ؟!

وقيل أيضا: وكيف نجيزُ غصتنا بماء/ ونحن نغصُ بالماء الشروبِ.

كأن على رؤوسهم الطير

 

ويضرب هذا المثل في الرزانة والحلم والركانة وقلة الطيش، والتأني، حتى كأن على الرؤوس طيراً يخاف أصحابها أن تطير.

قال بعضهم في الهيبة: يُلقي الكلامَ فلا يُراجعُ هيبةً/ والسائلون نواكسُ الأذقانِ/ عزَّ الوقارُ وخوف سلطان النهى/ وهو المهيبُ وليس ذا سلطانِ.

كان كراعاً فصار ذراعاً

 

ويضرب هذا المثل للرجل الوضيع الذليل الذي يصير عزيزا.

قال أبو تمام: أفعِشتَ حتى عبتهم قل لي متى/ فرزنتَ سرعة ما أرىَ يا بيدقُ.

تطلب أثراً بعد عين

 

يُضرب هذا المثل لمن ترك شيئاً يراه ثم تبع أثره بعد فوات الأوان.

ويقال إن أول من قال ذلك هو مالك بن عمرو العاملي، وتروي القصة، أن بعض ملوك غسَّان أخذ أسيرين يقال لهما مالك وسِماك ابنا عمرو فحبسهما عنده زماناً ثم قرر أن يقتل أحدهما، فأخذ كل واحد منهما يقول: اقتلني مكان أخي، فلما رأى ذلك قتل سِماكاً وأخلى سبيل مالك، فقال سِماك حين ظن أنه مقتول بعض الأبيات هذا منها: ألا من شَجَتْ ليلة عامدة/ كما أبدا ليلةٌ واحدةْ/ فأبلغ قُضاعة إن جئتهم/ وخص سَرَاة بني ساعدة/ وابلغ نزاراً على نأيها/ بأن الرماح هي العائدة/ واقسمُ لو قتلوا مالكاً/ لكنتُ لهم حية راصدةْ.

وانصرف مالك إلى قومه فلبث فيهم زماناً ثم ان راكبا مر يتغنى بهذا البيت: (واقسمُ لو قتلوا مالكا/ لكنت لهم حية راصدةْ)

فسمعت بذلك أم سِماك فقالت: يا مالك قبح الله الحياة بعد سِماك، اخرج في الطلب بأخيك، فخرج في الطلب، فلقي قاتل أخيه يسير في ناس من قومه فقال: من أحَسَّ لي الجمل الأحمر، فقالوا له وعرفوه، يا مالك لك مئة من الإبل فكف، فقال: لا أطلب أثراً بعد عين. فذهبت مثلاً. ثم حمل على قاتل أخيه فقتله.

التقى الثريان

 

يضرب هذا المثل لاتفاق الأخين في التحابب والتقارب. والثرى: الندى، وذلك أن المطر إذا كثر رسخ في الأرض حتى يلتقي نداه وندى الأرض، فشبه سرعة اتفاق الشيئين على المودة.

قال أبو نواس وهو الحسن بن هانئ: إن القلوب لأجنادٌ مجندةٌ/ لله في الأرض بالأهواءِ تأتلفُ

فما تعارف منها فهو معترفٌ/ وما تناكر منها فهو مختلفُ.

ولكن ابن الرومي خالف ذلك وقال: قالوا القلوبُ تجازي قلت ويحكم/ هذا المحالُ فكفوا لا تغروني/ على الخبيرِ سقطتم ها أنا رجلٌ/ أجبتُ في الناس قوماً لم يحبوني.

حسبك من شر سماعه

 

أي اكتف من الشر بسماعه ولا تعاينه، ويجوز أن يكفيك سماع الشر فقط. ويقال إن هذا المثل أصله لأم الربيع بن زياد العبسي، وذلك أن ابنها الربيع كان أخذ من قيس بن زهير بن جذيمة درعاً، فعرض قيس لأم الربيع وهي على راحلتها، فأراد أن يذهب بها ليرتهنها بالدرع فقالت له: أين عَزَبَ عنك عقلك يا قيس؟ أترى بني زياد مصالحيك وقد ذهبت بأمهم يميناً وشمالاً، وقال الناس ما قالوا وشاءوا؟ وإن حسبك من شر سماعه. كفى بالمقالة عاراً وإن كان باطلاً.

قال الشاعر: سائلٌ بنا في قومنا/ وليكفِ من شر سماعهْ.

ذهب أمس بما فيه

 

أول من قال ذلك هو ضمضم بن عمرو اليربوعي، وانه كان يحب امرأة فطلبها بكل حيلة فأبت، وقد كان غر بن ثعلبة بن يربوع يختلف إليها، فأتبع ضمضم أثرها وقد اجتمعا في مكان واحد، فصار بقربهما يراهما ولا يرونه فقال غر: قديماً تواتيني وتأبىَ بنفسها/ على المرء جواب التنوفةِ ضمضمِ.

فشد عليه ضمضم وقتله فقال: ستعلم أني لست آمن لبغضاً/ وإنك عنها إن نأيت بمعزلِ

فقيل له: لِمَ قتلت ابن عمك؟ قال: ذهب أمس بما فيه.

رُبَّ ساعٍ لقاعد

 

ويقال أيضاً: رُبَّ ساعٍ لقاعد وآكلٍ غير حامد. يقال إن أول من قاله هو النابغة الذبياني، وكان وفد إلى النعمان بن المنذر وفود من العرب فيهم رجل من بني عبس يقال له شقيق فمات عنده، فلما حبا النعمان الوفود بعث إلى أهل شقيق بمثل حباء الوفد، فقال النابغة حين بلغه ذلك:

رُبَّ ساعٍ لقاعدٍ وأنشد: أبقيت للعبسي فضلاً ونعمةً/ ومَحْمدةً من باقيات المحامدِ/ حباء شقيق فوق أعظم قبرهِ/ وكان يُحبىَ قبله قبر وافدِ/ أتَى أهله منه حِباء ونعمة/ ورُبَّ امرئ يسعىَ لآخرَ قاعدِ.

ويقال أيضا إن أول من قال هذا المثل هو معاوية بن أبي سفيان. فبعدما ثبت الحكم لابنه يزيد، قال له يزيد: ما بقيت لي حاجة ولا في نفسي غصة، ولا أمر أحب أن أناله إلا أمر واحد، فقال: وما ذاك يا بني؟ قال: كنت أحب أن أتزوج أم خالد امرأة عبدالله بن عامر بن كريز. فطلب معاوية عبدالله بن عامر وأكرمه وأهداه فطلقها. عندما انقضت عدتها دعا معاوية أبا هريرة فدفع إليه ستين ألفا وقال له: ارحل إلى المدينة حتى تأتي أم خالد فتخطبها على يزيد.

عندما وصل أبو هريرة إلى المدينة لقيه الحسن بن علي وأخبره القصة فقال الحسن: فأذكرني لها. ثم مضى، فلقيه الحسين بن علي وعبيدالله بن العباس واخبرهما القصة فقالا: اذكرنا لها. ثم مضى فلقيه عبدالله بن جعفر بن أبي طالب وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن مُطيع بن الأسود فسألوه، فقالوا: اذكرنا لها. ثم أقبل حتى دخل عليها وكلمها بما أمر به معاوية، ثم روى لها بقية القصة من الناس. فقالت: اما همي فالخروج إلى بيت الله والمجاورة له حتى أموت أو تشير عليَّ بغير ذلك.

قال ابو هريرة: اما أنا فلا اختار لك هذا، قالت: فاختر لي. قال: اختاري لنفسك. قالت: لا، بل اختر أنت لي. قال لها: اما انا فقد اخترت لك سيدَيَّ شباب أهل الجنة، فقالت: رضيت بالحسن بن علي، فأخبر الحسن بذلك وزوجها منه. وانصرف إلى معاوية بالمال ولما دخل عليه قال له معاوية: إنما بعثتك خاطباً ولم ابعثك محتسباً. قال ابو هريرة: انها استشارتني والمستشار مؤتمن. فقال معاوية (اسلمي ام خالد، رب ساع لقاعد، وآكل غير حامد).

من مأمنه يؤتى الحذر

 

وهو من أمثال أكثم بن صيفي إذ يقول: إن الحذر لا يدفع المقدور عن صاحبه.

قال الشاعر: أرى الناس يبنون الحصون وإنما/ بقيةُ آجال الرجال حصونها.

وقال آخر: أرى البين مبعوثاً على من يحاذر.

وقال العسكري: قد كنتُ أحذرُ ما ألقاه من نكدٍ/ لو كان ينفعني في مثلهِ الحذرُ/ يا نفسُ صبراً على ما كان من ضررٍ/ فربَّ منفعةٍ يأتي بها ضررُ.

وقال شاعر آخر مخالفا لهذا الرأي: تخوفني حروف الدهرِ سلمىَ/ وكم من خائفٍ ما لا يكونُ.

ويقال أيضاً: أكثر الخوف باطلهُ.

من العناءِ رياضَةٌ الهَرِمِ

 

ومعنى ذلك، أن تغيير الأطباع في الكبر شديد.

قال الشاعر: وتروضُ عُرسك بعد ما هَرمت/ ومن العناء رياضة الهرمِ.

وقال آخر: إن الغلام مطيعٌ من يؤدبه/ وما يطيعك ذو شَيْبٍ لتأديبِ.

وقالت امرأة من العرب: أنشأ يمزقُ أثوابي يؤدبني/ أبعد خمسين عندي يبتغي الادبا.

وقال صالح بن عبدالقدوس: وإنَّ من أدبته في الصبا/ كالعود يُسقىَ الماء في غَرسهِِ. وقال غيره: قد ينفع الأدب الأحداث في مهل/ وليس ينفع بعد الكبرةِ الأدبُ/ إن الغصون إذا قومتها اعتدلت/ ولا يلين إذا قومته الخشبُ.

وقال المغلوط السعدي: وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى/ ولكن أحاظ قُسمت وجدودُ/ إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً/ فمطلبها كهلاً عليه شديدُ.

هذا وغداً يتجدد اللقاء. كفى قوماً بصاحبهم خبيراً

 

أي كل قوم أعلم بصاحبهم من غيرهم.

قال جثامة بن قيس: إذا لاقيتِ قومي فاسألهم/ كفىَ قوماً بصاحبهم خبيرا/ بأني لا ينادي الحيُ ضيفي/ ولا الحىَ على الخطأ الأميرا/ واعفو عن أصول الحق منهم/ إذا نَشِبت واقتطِعُ الصدورا.

والمعنى: (لا ينادي الحي ضيفي فيحولوه إليهم، لأنه يجد عندي ما يحب، والأمير: الذي يؤامره أي أسامح صاحبي في الخطأ، واقتطع الصدور: أي آخذ العفو ولا أستقصي عليه).

Email