الحكمة والأمثال والبلاغة عند العرب (15)

الكونُ جامعةُ الجامعات والدهرُ أستاذُها المُعْتَبر

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.

 

موضوع اليوم عن الزمان والدهر والأيام، وما قيل فيها وفي صروفها، وما قيل في الدهر ونوازله، وفي الزمان وفي أفراحه واتراحه وهو كثير ومما قيل: وما مر يوم أرتجي فيه راحة/ فأخبره إلا بكيتُ على أمسي.

ومن كلام ابن الاعرابي: عن الأيام عد فعن قليل/ ترى الأيام في صور الليالي.

وقال آخر: أُف للدنيا إذا كانت كذا/ أنا منها في بلاء وأذى/ إن صفا عيشُ امرئ في صبحها/ جرَّعته ممسياً كأس الردىَ/ ولقد كنت إذا ما قيل من/ أنعم العالم عيشاً قيل ذا.

الله يغير ولا يتغير

 

قيل: ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولا سنة إلا والذي قبله خير منه.

قال أحدهم: مررت بقصر تضرب فيه الجواري بالدفوف ويقلن: ألا يا دار لا يدخلكِ حزن/ ولا يغدر بصاحبكِ الزمان/ فنُعم الدار تأوي كل ضيف/ إذا ما ضاق بالضيف المكانُ.

ثم مررت عليه بعد حين وهو خراب، وبه عجوز فسألتها عما كنت رأيت وسمعت، فقالت: يا عبدالله، إن الله يغير ولا يتغير، والموت غالب كل مخلوق، وقد والله دخل بها الحزن وذهب بأهلها الزمان.

قال أبو العتاهية: لئن كنت في الدنيا بصيراً فإنما/ بلاغك منها مثل زاد المسافر/ إذا أبقت الدنيا على المرء دينه/ فما فاته منها فليس بضائر.

بين أول الرؤوس وآخرها

 

قال عبدالملك بن عمير كما ورد في كتاب المستطرف: رأيت رأس الحسن رضي الله عنه بين يدي ابن زياد في قصر الكوفة، ثم رأيت رأس ابن زياد بين يدي المختار، ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب، ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبدالملك، فقال سفيان: كم كان بين أول الرؤوس وآخرها؟ فقلت: اثنتا عشرة سنة.

قال الشاعر: إن للدهر صرعة فاحذرنها/ لا تبيتن قد أمنت الشرورا/ قد يبت الفتى معافىَ فيردى/ ولقد كان آمناً مسرورا.

وقال شاعر آخر: أحسنت ظنك بالأيام إذ حسُنت/ ولم تخف سوء ما يأتي به القدر/ وسالمتك الليالي فاغتررت بها/ وعند صفو الليالي يحدث الكدر.

الزمان الأفضل والملوك الأكمل

 

سأل عبد الملك بن مروان اعرابياً: أي الزمان أدركته أفضل؟ وأي الملوك أكمل؟ فقال: أما الملوك فلم أرَ إلا حامداً وذاماً، وأما الزمان فيرفع أقواماً ويضع آخرين وكلهم يذكر.. أنه يُبلي جديدهم ويُفرق عديدهم، ويهرم صغيرهم، ويهلك كبيرهم.

قال الشاعر: يا منزلا عبث الزمان بأهله/ فأبادهم بتفرق لا يجمع/ أين الذين عهدتهم بك مرة/ كأن الزمان بهم يضر وينفع/ أيام لا يغشىَ لذكرك مربع/ إلا وفيه للمكارِم مرتع/ ذهب الذين يعاش في أكنافهم/ وبقي الذين حياتهم لا تنفع.

أما اسحاق بن ابراهيم الموصلي فقال: وإني رأيت الدهر منذ صحبته/ محاسنه مقرونة ومعايبه/ إذا سرني في أول الأمر لم أزلْ/ على حذر من أن تذمَّ عواقبه.

ويقال: إذا أدبر الامر أتى الشر من حيث يأتي الخير، و.. بتقلب الدهر تُعرف جواهر الرجال، و.. زمام العافية بيد البلاء، و.. ورأس السلامة تحت جناح العَطَب.

اضرب بطرفك حيث شئت، ألا تنظر إلا فقيراً يكابد فقراً، وغنياً بدّل نعمة الله كفراً، وبخيلاً اتخذ بحق الله وفراً، ومتمرداً كأن يسمعه عن سماع المواعظ وقراً. (ووقرا أي التثاقل أو الثقل به).

قال آخر: نحن في زمان إذا ذكرنا الموتى حييت القلوب، وإذا ذكرنا الأحياء ماتت القلوب.

قال الأمير أبي علي بن منقذ: أما والذي لا يملك الأمر غيره/ ومن هو بالسر المكتم أعلم/ لئن كان كتمان المصائب مؤلماً/ لَإعلانها عندي أشد وأعظمُ/ وبي كل ما يبكي العيون أقلَّه/ وإن كنت منه دائماً أتبسم.

صاحِب الأيام

 

قالت الحكماء: اصحب الأيام بالموادعة ولا تسابق الدهر فتكبو.

من سابق الدهر كبا كبوة/ لم يستقلها من خطا الدهرِ/ فأخطُ مع الدهرِ إذا ما خطا/ واجرِ مع الدهرِ كما يجري.

وقال الشاعر الاماراتي سلطان بن علي العويس: فذا الكون جامعة الجامعات/ وذا الدهر استاذها المعتبر.

وقال محمود سامي باشا البارودي المتوفى سنة 1904 م: والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر/ وإنما صفوهُ بين الورى لمعُ/ لو كان للمرء فكر في عواقبه/ ما شان أخلاقهُ حرصٌ ولا طمعُ.

يقال: من افاده الدهر افاد منه، و.. من عزَّ بإقبال الدهر ذل بإدباره.

قال الشاعر سالم بن علي العويس: هو الدهر لا نهيٌ عليه ولا أمرُ/ ولا طفرة تُعزىَ إليه ولا صبرُ.

وقال أحمد شوقي الكتوفى سنة 1932 م: اخلع النعل واخفض الطرف واخشع/ لا تحاول من آية الدهر غمضا.

وقال المتنبي: رماني الدهر بالأرزاءِ حتى/ فؤادي في غشاءِ من نِبالِ/ فصرت إذا أصابتني سهامٌ/ تكسَّرتِ النصالُ على النصالِ (والمعنى تكسرت النصال على النصال هي أن رؤوس السهام تتكسر على النصالِ أي على عظام الصدر).

من خلاصة الحكمة

 

قيل: انقى من الدهر، و.. لا أمان للدهر، و.. ما الدهر آهلٌ أن تؤمل عنده، و.. الدهر يومان يوم لك ويوم عليك، و.. إذا أدبر الدهر عن قوم كفى عدوهم، وإذا ساعدهم الدهر كفاهم أمر عدوهم.

وقيل.. وكذا الدهر إذا ما/ عزَّ ناس ذلّ ناس.

قال شاعر: إذا ما لبستَ الدهر مستمتعاً به/ تخرقت والملبوس لم يتخرقِ

وقال آخر: الدهر يومان ذا أمن وذا خطرُ/ والعيشُ عيشان ذا صفوٌ وذا كدرُ/ أما ترى البحرَ تعلو فوقه جيفٌ/ وتستقر بأقصى قاعه الدررُ/ وفي السماء نجومٌ لا عِدادَ لها/ وليس يكسفُ إلا الشمس والقمرُ.

ويقال: أكل عليه الدهر وشرب (يضرب المثل لمن طال عمره).

قال الشاعر: كم رأينا من أُناسٍ قبلنا/ شرب الدهر عليهم واكَل.

تقلبات الدهر

 

تموت الاسدُ في الغاباتِ جوعاً/ ولحم الضأنِ تأكله الكلابُ/ وعبدٌ قد ينام على حريرٍ/ وذو نسبٍ مفارشهُ الترابُ.

قف بروما وشاهد الامرَ واشهد/ أنَّ للمُلك مالكاً سبحانه/ دولةٌ في الثرى وانقاضُ مُلكٍ/ هدمَ الدهرُ في العُلا بنيانه/ يا دهرُ قد اكثرتَ فجعتنا/ بسراتنا وقرعتَ في العظمِ/ وسلبتنا ما لست معقبه/ يا دهرُ ما انصفتَ في الحكمِ. (السراة بمعنى الاشراف).

قال الشاعر: كان لنفسي أملٌ فانقضىَ/ فأصبح اليأسُ له مُعرَّضا/ اسخطني دهري بعد الرضا/ وارتجع العرفُ الذي قد مضىَ/ لم يظلمِ الدهرُ ولكنه/ اقرضني الاحسانَ ثم اقتضىَ.

وقيل: يعاندني دهري كأني عدوه/ وفي كل يوم بالكريهة يلقاني/ وإن رمتُ خيراٍ جاء دهري بضده/ وإن يصفُ لي يوماً تكدر في الثاني.

وقيل: تنكر لي دهري ولم يدر أنني/ أعز وان النائبات تهونُ/ وبات يريني الخطب كيف اعتداؤه/ وبت اريهِ الصبر كيف يكونُ.

وقيل: رمتني بنات الدهر من حيث لا ارى/ فكيف بمن يُرمى وليس برامي/ فلو أنني أُرمى بنبلٍ رأيتها/ ولكنني أُرمى بغيرِ سهامِ.

نسر لقمان

 

(طال الأبد على لُبد) وتزعم العرب أن لقمان بن عاديا الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم ليستسقي لها، فلما أُهلكت عاد خُيِّر لقمان بين بقاء سبع بقرات سمر من اظب عقر (اسم لمكان) في جبل وعر لا يمسها القطر أي (المطر). أو بقاء سبعة انسر كلما أُهلك نسر خلفه نسر. استحقر الأبقار وآثر النسور، فلما لم يبق غير السابع قال ابن أخ له: يا عم ما بقي من عمرك إلا عمر هذا. فقال لقمان: ها لُبد، ولبد بلسانهم تعني الدهر. وقالوا: وكان يأخذ فرخ النسر ويجعله في حوبة في الجبل فيعيش الفرخ خمسمائة سنة أو أقل أو أكثر.

فإذا مات أخذ فرخ آخر مكانه حتى هلكت كلها إلا السابع، أخذه فوضعه في ذلك الموضع وأسماه لُبداً، وكان أطول عمرا، فضربت العرب به المثل، فقالوا: طال الأبد على لُبد. وعاش لقمان كما زعموا ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة.

قال أحمد شوقي: عجبت للقمان في حرصه/ على لبدٍ والنسور الاخرْ/ وشكوى لبيد لطول الحياة/ ولو لم تطل لتَشكّى القِصرْ.

لبيد العامري

 

هو لبيد بن ابي ربيعة العامري الشاعر الذي قال بعد تجربة حياته الطويلة: ألا كل شيء ما خلا الله باطل/ وكل نعيم لا محالة زائل.

وقال أيضا: ولقد سئمت من الحياة وطولها/ وسؤال هذا الناس: كيف لبيدُ

وقال أيضا: من حياة قد مللنا طولها/ وجديرٌ طول عيشٍ أن يُمل.

وقال: ولقد جرى لُبدٌ فأدرك جَرْيهِ/ ريبُ الزمانِ وكان غير مُثقلِ/ لما رأى لُبَدُ النسورِ تطايرت/ رفع القوادمَ كالفقيرِ الاعزلِ/ من تحته لُقمانُ يرجو نفعهُ/ ولقد رأى لقمان أنْ لم يأتلِ.

قال الأعشى: وأنت الذي الهيتَ قليلاً بكأسه/ ولقمان إذ خيرَّت لقمان في العمرِ/ لنفسك أن تختار سبعة انسر/ إذا ما مضى نسر خلوت إلى نسرِ/ فعمَّر حتى قال إنَّ نسوره/ خلود وهل تبقى النفوس على الدهرِ.

وقال النابغة الذبياني: اضحت خلاء واضحىَ أهلها احتملوا/ اخنى عليها الذي اخنىَ على لُبدِ.

يا دار ميةَ بالعلياء فالسندِ/ اقوَت وطال عليها سالفُ الابدِ.

 

في معاذ الطاعن

 

قال الخزرجي في معاذ بن مسلم بن رجاء الذي طعن في السن وبلغ مائة وعشرين سنة: إن معاذَ بن مسلمٍ رجلٌ/ قد ضجَّ من طولِ عمرهِ الابدُ/ يا نسر لقمان كم تعيش وكم/ تلبسُ ثوب الحياةِ يا لُبدُ/ قد اصبحت دار ردمٍ خَرَبت/ وأنت فيها كأنك الوتدُ.

 

اغر من الاماني

 

إن الأماني غررٌ/ والدهر عُرفٌ ونكر/ من سابق الدهر عثر.

وقيل: فيا واثقا بالدهرِ كم غير آمنٍ/ لِما تنقضيهِ الباهظاتُ الفوادح.

وأيضا: أمن المنون وريبة تتوجعُ/ والدهرُ ليس بمعتبٍ من يجزعُ/ فإني رأيت الدهرَ في كلِّ ساعةٍ/ يسيرُ بنفس المرء والمرءُ جالسُ.

وأيضا: واعجب ما في الدهر أنَّ هباتهِ/ تزيد لمن فيه المروءة تنقصُ.

قال أبو صخر الهذلي وهو عبدالله بن سلم السهمي: عجبتُ لسعي الدهر بيني وبينها/ فلما انقضىَ ما بيننا سكنَ الدهرُ/ لقد تركتني أحسدُ الوحشَ أن ارى/ أليفين منها لا يروعهما الزجرُ.

وقال أعشى قيس: ولكن أرى الدهر الذي هو خائن/ إذا اصلحت كفانيِ عاد فأفسدا/ شبابٌ وشيبٌ وافتقارٌ وثروةٌ/ فلله هذا الدهر كيف ترددا.

قال آخر: قفوا برسوم الدارِ واستخبروا عنا/ ولا تحسبونا في الديارِ كما كنا/ لقد فرَّق الدهرُ المشتت شملنا/ وما تشتفي أكباد حسادنا منا.

وقال ابن الرومي: فقبلك قام اقوامٌ قعود/ لريب الدهرِ أو قعد القيامُ.

وقال بعضهم: وقال ما بال وجهك قد نضت/ محاسنه والجسم بان شحوبه/ فقلت لها هاتي من الناس واحداً/ صفا وقته والنائبات تنوبه.

أقوال في التسلي عن نوائب الدهر

 

تقول العرب: ويلٌ أهون من ويلين، وقيل: الدنيا كلها غموم فما كان فيها من سرور فهو ربح. و.. إذا سلك بك طريق البلاء سلك بك طريق الأنبياء.

قال الشاعر: إذا ابتليت فثق بالله وارض به/ إن الذي يكشف البلوى هو الله/ اليأسُ يقطع احياناً بصاحبه/ لا تيأسن فإن الصانع الله/ إذا قضى الله فاستسلم لقدرته/ فما ترى حيلة فيما قضى الله.

وقال آخر: صبرتني ووعظتني وأنا لها/ وستنجلي بل لا أقول لعلها/ ويحلها من كان صاحب عقدها/ كرماً به إذا كان يملك حلَّها.

وقال البحتري: وما هذه الأيام إلا منازل/ فمن منزل رحب إلى منزل ضنك/ وقد دهمتك الحادثات وإنما/ صفا الذهب الأبريز قبلك بالسبك/ أما في نبي الله يوسف أسوة/ لمثلك محبوس عن الظلم والإفك/ أقام جميل الصبر في السجن برهة/ فآل به الصبر الجميل إلى الملك.

 

 

المال حظ متفاوت

 

قيل: المال حظ ينقص ثم يزيد، وظل ينحسر ثم يعود. سئل حكيم عن حاله في نكبته فقال: عوَّلت على أربعة أشياء: أولها.. أني قلت القضاء والقدر لابد من جريانهما، والثاني.. أني قلت إن لم أصبر فما أصنع، والثالث.. أني قلت قد كان يجوز أن يكون أعظم من هذا، وأما الرابع.. أني قلت لعلَّ الفرج قريب.

Email