الحكمة والأمثال والبلاغة عند العرب - 11

ذو الفضلِ يحسُدُه المقصرون وكل ذي نعمة محسود

ت + ت - الحجم الطبيعي

إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.

(قاتل الله الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله) بهذا القول الذي سنذكر مناسبته في ثنايا السرد تاليا، ندخل إلى موضوع اليوم وهو عن الحقد والغيرة والحسد أجارنا الله وإياكم منها.

قال تعالى «قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد» سورة الفلق.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود).

وقال علي رضي الله عنه (الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له). وقيل: الحسد داء منصف، يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود.

يقول الشاعر: يعطيك ودا صادقا بلسانه/ ويجن تحت ضلوعه الوانا.

وقال آخر: بكيت دما على بغداد لما/ فقدت غضارة العيش الأنيق/ أصابتها من الحساد عين/ فأفنت أهلها بالمنجنيق.

أما الإمام الشافعي فقال: لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ/ أرحتُ نفسي من هَمّ العداواتِ/ إني أُحيي عدوي عند رؤيته/ لأدفع الشر عني بالتحياتِ.

مقولات خالدة

 

قال النبي صلى الله عليه وسلم (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) وقال أبو بكر الصديق: العداوة تتوارث.

قيل لكسرى: أي الناس أحب إليك أن يكون عاقلا؟ قال: عدوي. قيل: وكيف ذلك: قال: لأنه إذا كان عاقلاً كنت منه في عافية وفي أمان.

وقيل: كونوا من المرء الدغل أي (الفاسد) أخوف من الكاشح أي (العدو الحاقد) المعلن، فإن مداواة العلل الظاهرة أهون من مداواة ما خفي وبطن. وقالوا: إياك أن تعادي من إذا شاء طرح ثيابه ودخل الملك في لحافه.

وتقول الحكماء: دار عدوك لأحد أمرين: إما لصداقة تؤمنك، أو لفرصة تمكنك.

(ومن الشعر لحكمة)

 

ومما جاء في الشعر قول شاعر: من راقب الناس مات غما/ وفاز باللذةِ الجسورُ.

وقال آخر: وضغائنٍ داويتها بضغائنٍ/ حتى شفيتُ وبالحقودِ حقودا.

وقال أبو العتاهية: تنح عن القبيح ولا ترده/ ومن أوليته حسناً فزده/ ستلقى من عدوك كل كيد/ إذا كاد العدو ولم تكده.

وقال شاعر آخر: سن العداوة آباء لنا سلفوا/ فلن تبيد وللآباء أبناء.

الخير والعيب

 

قيل: فبلغ مصعباً عني رسولي/ وهل تلقى النصيح بكل وادِ/ تعلم أن أكثر من تُناجي/ وإن ضحكوا إليك هم الأعادي.

قالوا: إذا كان في الإنسان خير واحد، ولم يكن ذلك الخير المحبة في الناس، فلا خير فيه، وإذا كان فيه عيب واحد، ولم يكن ذلك العيب البغض في الناس، فلا عيب فيه.

قال الشاعر: ولست براء عيب ذي الود كله/ ولا بغض ما فيه إذا كنت راضياً/ فعين الرضا عن كل عيب كليلة/ كما أن عين السخط تبدي المساويا. وفي سياق هذا المعنى قيل أيضا: وعين البغض تبرز كل عيب/ وعين الحب لا تجد العيوبا.

أشد البلاء

 

قيل للنبي أيوب عليه السلام: أي شيء كان عليك في بلائك أشد؟ قال: شماتة الأعداء.

قال الجاحظ: تقول العاذلات تسل عنها/ وداوِ عليل قلبك بالسلوّ

وكيف، ونظرة منها اختلاساً/ ألذ من الشماتة بالعدوّ.

وقال ابن أبي جهينة المهلبي: كل المصائب قد تمر على الفتى/ فتهون غير شماتة الأعداء.

وقالوا: تكاشرني كرهاً كأنك ناصحٌ/ وعينُك تبُدي أنَّ صدرك لي دوي.

وإن تعدى حسودك والحسد ضرك/ ناديه يا أيها الانسان ما غرّك

ولم أرَ مثلي اليومَ أكثر حاسداً/ كأن قلوبَ الناس لي قلبٌ واجدِ/ ألم يرَ هذا الناس غيري فاضلاً/ ولم يظفر الحساد قبلي بماجدِ.

يقول المتنبي: وأظلمُ أهلِ الظلمِ من بات حاسداً/ لمن بات في نعمائه يتقلبُ.

أقوال من الأثر

 

قيل كاد الحسد يغلب القدَر، وقيل.. عين الحسود لا تسود، و.. عين الحسود فيها عود، وأيضا.. الحاسد حزن لازم، ونفسٌ دائم وعقل هائم، و.. ما أولع الحاسد بالملامة.

قال الشاعر: عين الحسود عليك الدهر حارسة/ تبدي المساوئ والاحسان تخفيهِ/ يلقاك بالبشرِ يبديه مكاشرة/ والقلب مضطغن فيه الذي فيهِ/ إن الحسود بلا جرم عداوته/ فليس يقبل عذراً في تجنيهِ.

وقيل في ذلك أيضا: إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا/ شراً أذيع وإن لم يعلموا كذِبوا.

قال عنترة بن شداد المتوفى سنة 7 قبل الهجرة: لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب/ ولا ينال العُلى من طبعه الغضبُ.

وقال ابراهيم بن الحاج النميري الأندلسي: وما لبسَ الحساد ثوباً يسرهم/ وكيف يسرُ الثوبُ والثوبُ واسخُ.

وقال شاعر: فلا تأمن عدوك لو تراه/ أقل إذا نظرت من القرادِ

فإن الحرب ينشأ من جبان/ وإن النار تضرم من رمادِ.

(القراد: حشرة صغيرة تتعلق بالبعير)

وأما الجاحظ فقال: ما رأيت سناناً أنفذ من شماتة الأعداء.

يقال فلان يتربص بك الدوائر أي (مصائب الدهر) ويتمنى لك الغوائل أي (الشر) ولا يؤمل صلاحاً إلا في فسادك، ولا رفعة إلا في سقوط حالك.

قال حكيم لا تأمن من عدوك وإن كان ضعيفا فإن القناة (الرمح) قد تقتل وإن عدمت السنان، أي (حديدته).

قال الشاعر: كل العداوةِ قد تُرجى إماتتها/ إلا عداوة من عاداك من حسدِ/ فإن في القلب منها عقدة عُقدت/ وليس يفتحها راقٍ إلى الأبدِ.

قال مروان بن ابي حفصة: ما ضرني حَسدُ اللئام ولم يزل/ ذو الفضلِ يحسُدُه ذوو التقصيرِ.

كل ذي نعمة محسود

 

قال الله تعالى (أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله) سورة النساء الآية 54.

وقيل: بئس الشعار الحسد قيل لبعضهم: ما بال فلان يبغضك؟ قال: انه شقيقي في النسب وجاري في البلد وشريكي في الصناعة، وهكذا ذكر جميع دواعي الحسد.

عقوبات الحاسد الخمس

 

قال أحد الفقهاء" يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أولها غم لا ينقطع، والثانية مصيبة لا يؤجر عليها، والثالثة مذمة لا يحمد عليها، والرابعة سخط الرب، والخامسة يغلق عنه باب التوفيق.

قال الشاعر: إياك والحسد الذي هو آفة/ فتوقهُ وتوقَّ غرةَ من حسَدْ/ إن الحسودَ إذا أراك مودةً/ بالقول فهو لك العدو المجتهدْ.

وقال آخر: إن يحسدوني فإني غير لائمهم/ قبلي من الناسِ أهلِ الفضلِ قد حُسِدوا/ فدام لي ولهم ما بي وما بهم/ ومات اكثرنا غيظاً بما يجدُ/ أنا الذي يجدوني في صدورهم/ لا ارتقي صعداً منها ولا أردُ.

قال حبيب الطائي: وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ/ طُويت اتاح لها لسان حسودِ/ لولا اشتعال النارِ فيما جاورت/ ما كان يُعرفُ طِيبُ العُودِ.

وقيل: تخلق الناس بالأدناس واعتمدوا/ من الصفات الدُها والمكر والحسدا/ كرهتُ منظرهم من سوء مخبرهم/ فقد تعاميت حتى لا أرى احدا. وجاء أيضا: يا كعبُ ما إن ترى من بيت مكرمةٍ/ إلا له من بيوت الشرِ حسادا.

عدل الحسد

 

قيل: الحسد داء منصف يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود. وهذا مأخوذ من قول: (قاتل الله الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله). ولهذا القول مناسبة نسردها تحت عنوان البدوي والوزير والمعتصم وفيها:

يحكى أن بدويا دخل على المعتصم فقربه وصار صديقا له، وصار يدخل على حريمه من غير استئذان، وكان له وزير حاسد فغار من البدوي وحسده وقال في قرارة نفسه، إن لم أحْتَل على هذا البدوي في قتله فإنه سوف يبعدني عن قلب أمير المؤمنين.

فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله فطبخ له طعاماً وأكثر فيه من الثوم وعندما أكله البدوي قال له عليك أن تحذر الاقتراب من أمير المؤمنين.. فيشم منك رائحة الثوم، فإنه يكره رائحته. ثم ذهب الوزير إلى المعتصم وقال له يا مولاي إن البدوي يقول عنك أنك ابخر أي (رائحة الفم كريهة).

دخل ذات مرة البدوي على المعتصم وجعل كمه على فمه مخافة أن يشم منه رائحة الثوم، فلما رآه المعتصم وهو يستر فمه بكمه قال إن الذي قاله الوزير عن هذا البدوي صحيح. فكتب المعتصم كتابا إلى بعض عماله يقول فيه.. إذا وصل إليك كتابي هذا فاضرب رقبة حامله.

ثم دعا بالبدوي وحمّله الكتاب. امتثل البدوي وأخذ الكتاب وخرج من عنده، وبينما هو بالباب قابل الوزير الذي سأله إلى أين وجهتك قال: أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان فقال الوزير في نفسه.. إن هذا البدوي قد يحصل له مال جزيل.

فقال له: يا بدوي ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك من سفرك، ويعطيك ثلاثة آلاف دينار؟ فقال أنت الكبير وأنت الحاكم والآمر والناهي. قال اعطني الكتاب. وأخذه منه ودفع له ثلاثة آلاف دينار وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصد. فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الوزير.

بعد أيام تذكر الخليفة أمر البدوي، وسأل عن الوزير الذي لم يره منذ أيام فذكروا له أن البدوي مقيم بالمدينة، فتعجب من ذلك وأمر بإحضاره فحضر. سأله عن حاله، فأخبره بالقصة التي حدثت له مع الوزير من أولها إلى آخرها فقال له:

أنت قلت عني للناس أني ابخر؟ فقال معاذ الله يا أمير المؤمنين أن أتحدث بما ليس لي به علم، وإنما كان ذلك مكراً منه وحسداً، وأعلمه كيف دخل إلى بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه، فقال أمير المؤمنين: قاتل الله الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله. فسار القول مثلا.

تنويعات مأثورة

 

قال الشاعر: يريك الرضا والغِلُّ حشو جفونه/ وقد تنطق العينان والفم ساكت.

وقال آخر: إن الغراب وكان يمشي مشيةً/ فيما مضى من سالف الأجيالِ/ حسد القطا وأراد يمشي مشيها/ فأصابه ضربٌ من العقّالِ/ فأضل مشيته واخطأ مشيها/ فلذاك كنوه أبا مِرقالِ.

قيل: إن كنت عاقلا وربك بالتقى برَّك/ ادفع أذاك وهات خيرك ودع شرك. عن عمر رضي الله عنه قال: نعوذ بالله من كل قدر وافق إرادة حاسد.

قيل لحكيم: ما بال الحسود أشد غما؟

قال: لأنه أخذ نصيبه من غموم الدنيا، ويضاف إلى ذلك غمه لسرور الناس.

قال نصر بن سيار: إني نشأت وحسادي ذوو عدد/ يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا

إن يحسدوني على ما بي لما بهم/ فمثل ما بي يجلب الحسدا.

قال الشاعر: يا طالب العيش في أمن وفي دعة/ رغداً بلا قتر صفواً بلا رنق/ خلّص فؤادك من غل ومن حسد/ فالغل في القلب مثل الغل في العنق.

(الدعة: اللين، رنق: كدر، قتر: الفقر).

من حكم السلف

 

قال ابو الحسن التهامي: إني لأرحم حاسِدي لعلم ما/ ضَّمتْ ضمائرهم من الاوغارِ/

نظروا صنيع الله بي فعيونهم/ في جنةٍ وقلوبهم في نارِ

يقال: وما اولع الحاسد بالملامة، وقيل: اشقىَ الناس من حسد على النُعمِ وسخط على القِسَم، وأيضا: الحسد داء لا دواء له، وقيل أيضا: ولا راحة مع حسد، و.. من راقب الناس مات هماً.

قال الشاعر القروي رشيد سليم الخوري: لو كان يدري حسودي ما اكابدُه/ في الحق ما اكلته جمرة الحسدِ.

وقال آخر: ازيد نفاراً عند ذلك باطناً/ وفي ظاهري أهلٌ وسهلٌ ومرحبُ/ فإني رأيت الحرب يعلو اشتعالها/ ومبدؤها في أول الأمر ملعبُ/ وللحية الرقشاء وشيٌ ولونها/ عجيبٌ وتحت الوشي سمٌ مركَّبُ.

يقال: لا تحسد الضب على ما في جحره (أي لا تحسد فلانا على ما رُزق).

وقيل: الحسد داء لا يبرأ منه، و.. الحسد ثقل لا يضعه حامله، و.. ليس لحسود غنىَ، و.. ليس للحاسد إلا ما حسد، و.. من دارى الحساد أسَّفَهم.

قال الشاعر: دع الحسود وشأنه/ إن الحسود مأثومٌ

وقال شاعر آخر: إن شئت قتل الحاسدين تعمداً/ من غير مديات عليك ولا قَوَدْ/ وبغير سم قاتلٍ وصوارمٍ/ وعقارب ليس يغفل عن احدْ/ عظّم تجاه عيونهم محسودَهم/ فتراهُمو موتىَ النفوسِ مع الجَسَدْ.

Email