الحكمة والأمثال والبلاغة عند العرب (8)
المحبـــــــــة جدول يـــــــــــــــــردد أنغامه في أذن الليـــــــل
إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.
والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.
فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.
موضوع هذه الحلقة يدور في ما قيل في المشاعر والود والعواطف. وأبدأها بقصة قد رواها لي صديق وكان قرأها منشورة، مفادها أن رجلا كان يرتاد المقهى ويشرب فنجان القهوة كل صباح قبل أن يذهب إلى العمل، وكان يجلس وحيدا منفردا في إحدى زوايا المقهى. ذات مرة التقى فتاة أرادت أن تشاركه الطاولة، وهذا الرجل بطبعه شديد الخجل في حديثه مع النساء، سألته كيف تحب قهوتك؟
فأجابها متلعثما أحبها مع الملح. استغربت الفتاة من رده، فقال إن جميع أفراد أسرته يحبونها مع الملح. بعد فترة تزوجا وكانت كل صباح تقدم له فنجان القهوة مع ملعقة ملح لفترة طويلة حتى مات. بعد موته وجدت دفتر مذكراته اليومية مكتوب فيها أنه لم يحب أبدا القهوة مع الملح وعندما أخبرها أول مرة أنه يحبها مع الملح، أراد أن يقول مع ملعقة سكر، ومن شدة خجله قال الملح، ولشدة حبه لها لم يجد الشجاعة الكافية ليخبرها بحقيقة الأمر ويفسد عليها فرحتها وهي تقدم له القهوة صباح كل يوم. حزنت كثيرا على التضحية التي قدمها لها وصارت تبكي، ومنذ تلك اللحظة قررت أن تشرب القهوة مع ملعقة من الملح. وكلما سألها أحد كيف طعم قهوتك؟ تقول: حلوة.
من يُعير عينه؟
قال الشاعر: إن المحبة أمرها عجبُ/ تُلقى عليك وما لها سببُ.
قال آخر: أمازحها فتغضب ثم ترضى/ وفعل جمالها حسنٌ جميلٌ/ فإن تغضب فأحسن ذاتِ دلٍ/ وإن ترضىَ فليس لها عديلُ.
وقيل: وكم قد شاهدتكِ الناس قبلي/ فما نظروكِ كلهمو بعيني.
قال العباس بن الأحنف: الحب أول ما يكون لجاجةً/ تأتي به وتسوقه الأقدارُ/ حتى إذا سلك الفتى لججَ الهوى/ جاءت أمورٌ لا تُطاق كبارُ/ نزف البكاءُ دموعَ عينك فاستعر/ عيناً لغيرك دمعها مدرارُ/ من ذا يعيرك عينه تبكي بها/ أرأيت عينا للبكاءِ تُعارُ.
قال الدارمي: قل للمليحة في الخمارِ الاسودِ/ ماذا فعلتِ بزاهد متعبدِ/ قد كان شمر للصلاة إزاره/ حتى قعدتِ له بباب المسجدِ/ ردي عليه صلاَتهُ وصيامَهُ/ لا تقتليه بحق دينِ محمدِ.
حديث المطرة
قال جبران خليل جبران في كتاب النبي، عندئذ قالت المطرة، حدثنا عن الحب فرفع رأسه ونظر إلى الجموع حوله فخيم عليهم السكون وبصوت عظيم قال لهم: متى يناديكم الحب فاتبعوه ولو كانت طرقه وعرة ومحفوفة بالمخاطر. وإذا طواكم بجناحيه فاستسلموا له، ولو كان السيف المختبئ بين قوادمه قد يجرحكم، ومتى يخاطبكم فصدقوه، ولو بدد صوته أحلامكم كما تبدد ريح الشمال أزهار الحديقة.
وقال الجاحظ: العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما إن السرف اسم لما جاوز الجود. وقال اعرابي: العشق خفي أن يرى وجلي أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى (اتقد) وإن تركته توارى، وقيل أول العشق النظر وأول الحريق الشرر.
ماجاء في النظم
قال شاعر: وحديثها السحرُ الحلال لو أنه/ لم يجنِ قتل المسلم المتحرزِ/ إنْ طال لم يُملل وإن هي أوجزت/ ودَّ المحدثُ أنها لم توجزِ
شرك القلوبِ وفتنةٌ ما مثلُها/ للمستهامِ وعُقلةُ المستوفزِ.
وأنشد الأخفش الحداد قائلا: مطارق الشوق منها في الحشى أثر/ يطرقن سندان قلب حشوه الفكر/ ونار كور الهوى في الجسم موقدة/ ومبرد الحب لا يبقي ولا يذر. و(الكور بمعنى مجمرة الحداد من الطين).
وقال العباس بن الاحنف: أبكي الذين أذاقوني مودتهم/ حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا/ جاروا عليَّ ولم يوفوا بعدهم/ قد كنت أحسبهم يوفون إن عهدوا/ لأخرجن من الدنيا وحبكم/ بين الجوانحِ لم يشعر به أحدُ.
أجمل الحناجر
أما الأمير عبد الله الفيصل فله من أجمل ما تغنت به الحناجر، وما أطربت له الأنغام حيث يقول: من أجل عينيك عشقت الهوى/ بعد زمان كنت فيه الخلي/ وأصبحت عيناي بعد الكرى/ تقول للتسهيد لا ترحلِ/ هذا فؤادي فامتلك أمره/ واظلمه إن أحببت أو فاعدلِ.
ويقول الشريف الرضي: أنتِ النعيم لقلبي والعذاب له/ فما أمرّكِ في قلبي وأحلاكِ/ يا ظبية البان ترعى في خمائله/ ليهنك اليوم إن القلب مرعاكِ/ عندي رسائل شوق لستُ أذكرها/ لولا الرقيب لقد بلغتها فاكِ.
وقال الاخطل الصغير(بشارة الخوري): بلغوها إذا أتيتم حماها/ إنني متُ في الغرام فداها/ واذكروني لها بكل جميل/ فعساها تبكي عليَّ عساها/ واصحبوها لتربتي فعظامي/ تشتهي أن تدوسها قدماها.
وفي كتاب (الجليس الأنيس) لأبي العالية الشامي قال: سأل المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟ فقال: هو سوانح تسنح للمرء فيهيم بها قلبه وتؤثرها نفسه. وقيل: العشق جليس ممتع وأليف مؤنس وصاحب ملك مسالكه ضيقه، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائرة.
جبران وبعض من قلب الحياة
يقول جبران خليل جبران: هو الحب الذي يتسلق أعاليكم ويداعب أغصانكم التي ترتعش في الشمس، كذلك ينحدر إلى جذوركم ويهزها وهي تتمسك بالأرض، وكحزم القمح يجمعكم إلى ذاته. كل هذا يصنعه الحب بكم لتتعرفوا إلى أسرار قلوبكم وفي هذه المعرفة تصيرون بعضا من قلب الحياة.
وقيل شعرا: قوامك فتانٌ وطرفكِ أحورُ/ ووجهكِ من ماء الملاحة يقطرُ/
تصورتُ في عيني أجل تصور/ فنصفكِ ياقوت وثلثكِ جوهرُ/ وخمسكِ من مسكٍ وسدسكِ عنبرُ/ وأنتِ شبيه الدر بل أنتِ أزهرُ/ فإن شئتِ تعذيبي فمن سنن الهوى/ وإن شئتِ أن تعفي فأنتِ مخيرُ.
وقال شاعر: وما في الأرض أشقى من محبٍّ/ وإن وجد الهوى حلوَ المذاقِ/ تراهُ باكياً في كل وقتٍ/ مخافة فرقةٍ أو لاشتياقِ/ فتسخن عينهُ عند التنائي/ وتسخن عينهُ عند التلاقي.
مأتم القلب وعرس العين
قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه صاحب العقد الفريد المتوفى سنة 328هـ، صِلْ من هويتَ وإن أبدى معاتبةً/ فأطيب العيش وصلٌ بين خلينِ/ واقطع حبائل خلٍّ لا تلائمه/ فربما ضاقت الدنيا على اثنينِ.
وقال الشريف الرضي: (فالقلب في مأتمٍ والعينُ في عرسٍ).
وقال المتنبي: حشايَ على جمرٍ ذكيٍّ من الهوى/ وعيناي في روضٍ من الحسن ترتعُ.
وقال عبدالله بن الدمينة: غدتْ مقلتي في جنةٍ من جمالها/ وقلبي غدا من هجرها في جهنمِ.
وأخذه الطائي فقال: أفي الحق أن يُضحىَ بقلبي مأتمٌ/ من الشوقِ والبلوى وعينيَّ في عُرسِ.
وقال خالد الكاتب: قالوا نراك سقيماٍ/ فقلتُ من مقلتيهِ/ في النارِ قلبي وعيني/ في الروضِ من وجنتيهِ.
ويقال: الهوى شديد العمى، وربيع القلب ما اشتهى.
وقيل: جسمي معي غير أن الروح عندكمُ/ فالجسمُ في غربةٍ والروحُ في وطنِ/ فليعجب الناس مني أنَّ لي بدناً/ لا روحَ فيه ولي روحٌ بلا بدنِ.
الهوى والحياء
قال يحيى بن معاذ الرازي: لو أمرني الله أن أقسَّم العذاب بين الخلق ما قسمت للمغرمين عذاباً.
يقول الشاعر: ما إن دعاني الهوى لفاحشة/ إلا نهاني الحياء والكرمُ
فلا إلى فاحش مددت يدي/ ولا مشت بي لزلة قدمُ.
وقال آخر: يقولون لا تنظر فذاك بلية/ بل كل ذي عينين لابد ناظر/
وهل باكتحال العين بالعين ريبة/ إذا عفّ بينهن السرائر.
وقالت ليلى الأخيلية عن نفسها: وذي حاجة قلنا له لا تبح بها/ فليس إليها ما حييت سبيلُ/ لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه/ وأنت لأخرى صاحب وخليلُ.
وقال ابن ميادة: موانع لا يعطين حبة خردل/ وهن دوان في الحديث اوانس/ ويكرهن أن يسمعن في اللهو ريبة/ كما كرهت صوت اللجام الشوامس.
(الدوان بمعنى القريبات والشوامس الخيل الممتنعة)
وقال آخر: حور حرائر ما هممن بريبة/ كظباء مكة صيدهن حرامُ
يحسبن من لين الكلام فواسقاً/ ويصدهن عن الخنىَ الاسلامُ
(الخنى بمعنى الفحش).
القلب مصحف البصر
قال الشاعر: وإذا القلوبُ استرسلت في غيها/ كانت بليتها على الاجسامِ
ويقال: ما اتعس القلب الذي لم يكد/ يلتأم حتى انكأته الخطوبِ.
الحُسن أحمر
تقول العرب الحسن أحمر، أي من أراد الحسن صبر على أشياء يكرهها، والعرب تسمي المرأة الحسناء حمراء، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي عائشة الحميراء، كذلك تقول العرب أيضاً للرجل البارع الحسن، أحمر وقاد.
قال الشاعر: وحمراءُ غبراءُ الفروعِ منيفةٍ/ بها توصفُ الحسناءُ أو هي أجملُ.
وقال بشار بن برد: وإذا خرجتِ تقنعي/ بالحمرِ إنَّ الحسنَ أحمرْ.
ولذلك كانت العرب تُلبس العروس الثياب الحمر.
أرواحنا سالت من عيوننا
قيل: خليليَّ لا دمعاً بكيت وإنما/ هي الروحُ من عيني تسيلُ على خدي
يقول بشار بن برد: وليس الذي يجري من العينِ ماؤها/ ولكنها روحي تذوبُ فتقطرُ.
وقال المتنبي: فلم أرَ بدراً ضاحكاً قبل وجهها/ ولم ترَ قبلي ميتاً يتكلمُ
وقال آخر: وأمطرت لؤلؤاً من نرجسٍ وسقت/ ورداً وعضت على العناب بالبردِ.
وآخر قال: لكِ الثلثانِ من قلبي/ وثلثا قلبهِ الباقي/ وثلثا ثلثِ ما يبقىَ/ وثلثُ الثلثِ للساقي/ وتبقىَ اسهمٌ ستٌ/ تُقسَّمُ بين عشاقي.
وفي الغد لنا موعد ولقاء وحلقة جديدة.
جدول الليل
يضيف جبران قائلا: الحب لا يعطي إلا نفسه ولا يأخذ إلا من نفسه. الحب لا يملك شيئاً ولا يملكه شيء لأن الحب يكتفي بالحب. الحب لا يطمح إلا إلى تحقيق ذاته أما إذا أحببت وكان لابد لك من مطمح فليكن هذا: أن تذوب وتكون جدولا يردد أنغامه في أذن الليل، أن تعرف لوعة الحنان المتناهي.