عظة الموت لدى المسلم

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحمد لله الأزلي لا بداية له، الآخر الأبدي لا نهاية له، له الحكم وإليه ترجعون، والصلاة والسلام على سيدنا محمد عمل للآخرة الباقية ولم تفتنه الدنيا الفانية. أحمد الله تعالى وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله قدّر الآجال، وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله صادق الأعمال، صلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الذين علموا أن الدنيا زوال فقطعوا منها الآمال وأن الآخرة خلود فشدوا إليها الرحال. سبحانك ربنا كتبت على خلقك الفناء وتفردت وحدك بالبقاء قدرت علينا الموت وأنت حي باق دائم، سبحانك يا من جعلت لكل أجل كتاباً ولكل نفس حساباً تنال بعده ثواباً أو عقاباً، وقصَرت الأعمال على وقت محدود ونفَس معدود سبحانك جعلت لكل حي نهاية ولكل إنسان غاية ووقتاً معلوماً ورزقاً مقسوماً وقضاء محتوماً لا نقص فيه ولا محيص: {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.

وإذا انقضى العمر فهيهات أن تشترى دقيقة واحدة ولو بأموال قارون: سبحانك يا من جعلت العدم نهاية كل حي وختام كل شيء وآخرة كل كائن، فمهما عاش الإنسان فهو إلى الموت صائر، ومهما تجبر فلا بد إلى القبر سائر {كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام}.

قضاء نافذ وحكم شامل وأمر حتم لازم لا مهرب منه ولا مفر {كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون}. لم قدر الله الموت على عباده وكان قادراً ألا يميتهم؟ لم كتب الفناء على خلقه ولو شاء لأبقاهم وخلدهم في دنياهم؟ ما حكمة الموت وما فائدته؟ ولم لا نعيش أبداً لا نفنى ودائماً لا نذهب؟ سبحانك يا من تفردت بالقدرة جلت حكمتك خلقت مع الإنسان نفساً طامعة وشهوة شرهة جائعة أمارة بالسوء ميالة للشر منقادة للهوى.

الإنسان طماع لا يقنع، جائع لا يشبع، كثير الآمال محب للمال، قليل العمل طويل الأمل، يتعلق باللذات والنعيم ويتبع كل شيطان رجيم، فقدر الله عليه الموت ليرجع عن غيّه ويقلل من طمعه ويحسن أعماله، إذا تفكر في الحفر والوهاد، فالموت زاجر رادع وحاجز مانع، ولولاه لما وقف إنسان عند حد، ولولاه لما رجع مخلوق عن أي غرض وقصد {تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور}.

قدر الله علينا الموت ليذل به كل جبار عنيد، ويقهر به كل مستبد عتيد، وليكون إنذاراً للغافلين، وتنبيها للنيام والجاهلين، وصاعقة على الباغي، ونكبة على الطاغي، ولجاماً للشهوات. قدر الله علينا الموت لييأس العابد من متاع الحياة فيعرض عنه، وييأس الفاجر من النجاة لحرصه عليه، وإذا كانت الأرض تضيق بأهلها الأحياء وتزدحم بالموجودين، فكيف بها لو عاش الناس من مبدأ الخليقة إلى يوم الدين؟ وإذا كان الناس لا يكفون عن الشر والأذى وهم يعلمون أن الموت مصيرهم، فماذا يكون حالهم لو قدر أن الموت لا يصيبهم؟

إذا كان الناس يسأمون العيش ويملون الحياة وهي محدودة زائلة، فأي سأم وأي ملل كان يكفيهم لو كانت حياتهم ممدودة؟ قدر الله علينا الموت ليذكرنا بقدرته وعظمته، قدر الله علينا الموت ليكون أكبر عظة وعبرة وأبلغ درس وحكمة، وأي عظة أكبر من القياصرة العظام، وظلمة الملوك والحكام، الذين كانوا يحكمون بالإعدام، صيرهم الموت في الرغام. أي عبرة أعظم من أهل النعيم والثراء والرفاهية.

وقد كانت لا تسعهم القصور فوسعتهم القبور، وبعد أن نعموا بأفخر الثياب غمرهم التراب وحرمتهم الأجداث من الرياش والأثاث، ومن أنوار الكهرباء الساطعة إلى ظلمات الفناء الحالكة. فأي نفس لا تلين وهي ترى الناس يموتون فلا يرجعون. وينزل بهم الموت فلا يستطيعون له دفعاً ولا يملكون له حيلة.

 أي قلب لا ينفطر لرجل فقد وحيده وحبيبه، بعد أن رباه وعلمه وهذبه وكمله، ولما نضج وأوشك أن يأتي بالخير خطفه الموت قهراً عن والده لم يستطع إنقاذه وتخليصه، أي دمع لا يجري؟ أي عاطفة لا تهتز؟ فالموت حق واقع ماله من دافع، ولكنه الحق المر المكروه، والوعد الصادق المبغوض، ولن يكره الموت إلا رجل تعلق بالدنيا، فهو يخشى فراقها، وشغل باللذات فهو يغالط نفسه عن النهاية ويخدعها عن الآخرة، أما المؤمن فهو للموت ذاكر ولربه شاكر ولإخوانه معين ومناصر.

Email