زايد.. رجل المواقف الانسانية

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

مع الطفل والشاب والشيخ والمرأة.. مع الإنسان والحيوان، والشجر والحجر، في الداخل والخارج، حتى مع العدو وإن لم يكن.. كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، إنساناً بكل ما ترسخه هذه الكلمة من معانٍ تسمو وترقى، لم ينظر إلى ديانة أو جنسية أو عرق أو لون. كان زايد زايداً في كل شيء.. هكذا كان في السراء والضراء؛ إنساناً. لذلك كله ظل رحمه الله بطل المواقف ورجلها، صادفه الكثير والكثيرون صادفوه فرحين، رصد القريبون مواقف له، وكتب آخرون مواقف أخرى، وقصَّ كثيرون مواقف تُحكى؛: كلها تعود إلى المغفور له الشيخ زايد، ولا تختزلها سوى كلمة واحدة.. إنسان.. في السطور التالية نسرد بعض تلك المواقف التي لا يزال صداها مدوياً محلياً وعربياً وعالمياً.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يروى أن الشيخ زايد رحمه الله في أحد أيام رمضان - منذ سنوات - شعر بالعطش في يوم حر شديد، وتعب أشد التعب، وفكر ملياً في الإفطار بعد رحلة شاقة بدأت على ظهر حصانه منذ مطلع الفجر حتى الظهر، لكنه ظل يقاوم رغبة الإفطار، واتجه بالقرب من المعترض في منطقة العين إلى أحد الأفلاج ليسبح في الماء لعله يتغلب على الحر. ووجد سموه رجلاً يغسل كيس التمر «الجراب» المصنوع من «عنثر» التمر (سعف النخيل) في الماء.

 ودعا زايد الرجل ليتوقف عن غسيل الجراب حتى لا يتلوث الماء، ويعكر عليه الاستحمام، ورفض الرجل هذا الطلب، وسأل الرجل زايد من بعيد دون أن يعرفه: ولماذا استجيب لك؟ ومن أنت حتى أسمع كلامك؟ فرد زايد: إنسان مثلك، فأجاب الرجل: لكنني لن أكف، وقال زايد: إنني أخ لك، واسمح لي لعدة لحظات حتى أستحم دون أن تعكر الماء، لكن الرجل تمادى، بل ودعا الشيخ زايد إلى الخروج من الماء، وكان سموه حليماً للغاية. وقال للرجل: أرجوك أمهلني 10 دقائق، ورد الرجل: ولا دقيقة واحدة. وقال زايد: «أنا حران وصائم». واستمر الرجل في عناده، بل واحتد بكلمات غير لائقة! ولم ينفعل زايد بل تحلى بالصبر، وقال وهو يبتسم للرجل: إنني لا أريد الإفطار .. وحرام عليك يا أخي المسلم، ولم تنفع هذه الكلمات الرقيقة مع الرجل.

ولم يترك لزايد مجالاً للاستحمام، وعاد زايد يقول للرجل: اتركني، فرد الرجل: لا، وقال زايد: يعني أنت قوي؟ وقال الرجل: نعم قوي وأستطيع أن أرميك رمية واحدة وأضربك، فقال زايد: انت تضربني وتهددني رغم أنني مسلح وأنت أعزل، فسأل الرجل: ماذا لديك من سلاح؟ قال زايد: عندي بندقية وأظن أنك لن تتطاول وأفضل لك أن تتركني عشر دقائق، فقال الرجل: لو كان عندي سلاح مثلك لما تركتك. وابتسم زايد، بينما كانت مجموعة من الرجال تأتي نحوه وتحييه تحية إكبار وإجلال، وعرف الرجل في هذه اللحظة إنه زايد.. وأقبل يعتذر، ولم يغضب سموه، بل صافح الرجل وأخذ يتعرف على أحواله.

إنسانية زايد

 

مما يرويه الشاعر سعيد بن دري الفلاحي: في سويسرا؛ وعندما يكون الشيخ زايد في أي مكان، كان يلقى كل ترحيب، وكان عدد كبير من العرب والمسلمين في الخارج يحرصون على السلام عليه، ومن كانت له حاجة يعرضها عليه في رسالة، وذات يوم جلس لاستعراض الرسائل والرد عليها، وكان يأمر بإعطاء كل صاحب حاجة حاجته، ولاحظ ـ رحمه الله ـ أن الشخص الذي كان مكلفاً بعرض الرسائل قد أخفى إحداها في جيبه، واستمر يعرض الرسائل إلى أن انتهى منها.

فسأله الشيخ زايد: هل انتهينا؟ قال: نعم، فعاد الشيخ ليسأله عن الرسالة التي أخفاها في «مخباه»، فأجابه إنه أخفاها لأن صاحبها يهودي ويطلب مبلغاً من المال لغرض ما، فأمره أن يعطيه ضعف ما طلب، قائلاً له: إننا نتعامل مع الآخرين على أنهم بشر، وليس وفقاً لجنسياتهم أو دياناتهم، أعطه ما يريد ليعرف ذلك الشخص كيف يتعامل المسلمون مع غيرهم، أعطه، فربما يهديه الله بسببنا.

المرأة التي لم تصدّق

 

في أحد الأيام كان المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، يتجول بسيارته متفقداً كورنيش أبوظبي، ولمح سيدة عربية تعرفت عليه فأخذت تحييه من بعيد، وعندما اقترب منها سمعها تقول: إنها تتمنى أن تصافح الشيخ زايد، فأمر السائق بالتوقف، وناداها فهرولت للسلام عليه. وبطبيعة الحال كان الموقف أكبر من تصورها واستيعابها، فانعقد لسانها عندما صافحته، وظلت ممسكة بيده دون أن تنطق بكلمة، وبإنسانيته وعطفه أدرك ما كانت فيه.

فأخذ يخفف عنها ويبتسم لها ويسألها عن أحوالها وأسرتها، لكنها ظلت شاخصة دون كلام، فسألها عن حاجتها، قالت من بين دموعها: إن لها ستة عشر عاماً في الإمارات، ولا تريد إلا سلامته، سألها إن كانت بحاجة إلى المال فقالت: نحن أسرة ميسورة الحال وزوجي يعمل في إحدى شركات البترول. وكنت أحلم بمصافحتك لأنك الزعيم العربي الوحيد الذي يمكن أن يقترب منه الناس ويصافحوه، ولم أحلم بذلك في بلادي، أنت الرئيس الذي أحبه المواطنون والمقيمون ولو سرت بدون أي حراسة لا تخاف على نفسك فقد أحبك الجميع، استمر ـ رحمه الله ـ يخفف عنها بابتسامته الحانية وعاد ليسألها: هل لك حاجة، هل عندك مشكلة لنحلها لك؟

قالت مندفعة: الآن بدأت مشكلتي، فابتسم قائلاً قبل أن يتعرف على مشكلتها: سنحلها لك بإذن الله. ما هي مشكلتك؟ قالت: لن يصدق أهلي وأقاربي وصديقاتي أنني صافحت الشيخ زايد يداً بيد، فضحك ـ رحمه الله ـ وقال لها: نحن سنجعلهم يصدقون، وأمر بأخذ رقم هاتفها، وفي المساء دق باب بيتها، وحمل إليها مبلغاً من المال، ومجموعة هدايا قيمة، وساعة يد نسائية عليها صورته ـ رحمه الله ـ وأبلغتها رسالة منه: الآن سيصدقون أنك صافحت زايد يداً بيد.

عشاء في المبزرة

 

كان الشيخ زايد ـ رحمه الله ـ يتجول في منطقة المبزرة في العين، وكان يوم خميس ومنطقة المبزرة مليئة بالرواد، فشعر بسعادة الناس وفرحتهم وأنسهم بتلك المنطقة الجميلة التي تحولت إلى جنة خضراء، وتوفرت فيها كل الخدمات وسبل إسعاد الناس وراحتهم بعد أن كانت منطقة جبلية موحشة.

فرح بذلك وأمر أن يقدم العشاء لكل من كان في المنطقة، وأن تتجول سيارات الشرطة بين الناس لتطلب منهم البقاء في أماكنهم، لأن عشاءهم في تلك الليلة من الشيخ زايد، فانطلقت السيارات إلى مطاعم العين ولم تترك فيها وجبة واحدة، ووزعت على الناس الذين كانوا في غاية السعادة وألسنهم تلهج بالدعاء له، وبعد أن عاد إلى القصر في أبوظبي سأل ليزداد اطمئناناً: هل عشيتم الناس وكم وجبة قدمتم، قيل له: نعم تم تنفيذ ما أمرتنا به على أكمل وجه وقدمنا ثلاثة آلاف وجبة، ولم يتبقَ أحد لم يتناول من أكل الشيخ، فانفرجت أساريره وشعر بسعادة ورضا.

أين صاحب المحل

 

كان يحلو للشيخ زايد طيب الله ثراه- السير في شوارع مدينة العين، التي أحبها ومنحها من قلبه ووجدانه الكثير، وأصبحت واحة خضراء غنّاء وسط الصحراء، في ذات يوم جمعة بعد الصلاة، والحركة قليلة والهدوء يعم المدينة، وإذ بموكب يخرق جدار الصمت، وأخذ الناس يتراكضون، وبدأت السيارات تتوقف في مكانها، وسط الطرقات وتحت الجسر القديم الذي اختفت معالمه حينذاك، وإذ به رحمه الله، يترجل ويسير باتجاه أحد المحلات التجارية، ولم يكن يوجد سوى العامل، الذي فوجئ بالشيخ زايد يسأل عن صاحب المحل، وفي دقائق كان صاحب المحل أحمد السلامي يركض قادماً، وبصحبته بعض الأشخاص، وارتمى في أحضان زايد رحمه الله، والبسمة تعلو محياهما، جلسا سوية أمام المحل وزايد يسأله عن أحواله وأحوال عياله، كان رحمه الله يحرص كل الحرص على تفقد أحوال رعيته، يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم.

يضع ألغازاً للتراث

 

في مطلع تسعينيات القرن الماضي، دشن تلفزيون أبوظبي برنامجاً تراثياً في قالب جديد، مبتعداً عن التقليد والتكرار، ومراعياً الإثارة والدقة في عرض المعلومات الواردة في البرنامج، لاسيما وأن جميعها يتعلق بالتراث.

وبعد إقامة القرية التراثية على كاسر أمواج أبوظبي، عزم كادر العمل وعلى رأسهم مدير تلفزيون أبوظبي، آنذاك علي عبيد، على تسجيل سبع حلقات قبل حلول شهر رمضان، وكان المذيع القطري فوزي الخميس رحمه الله مقدم البرنامج.

ويؤكد علي عبيد أنه بعد تدشين العمل وبثه على شاشة أبوظبي، لاقى البرنامج أصداءً واسعة، وفي اليوم الرابع أو الخامس من شهر رمضان فوجئ الجميع بزيارة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله إلى موقع الحدث دون علم مسبق.

ويضيف إن زايد رحمه الله قدم مفاجأة أخرى بوضع ألغاز تراثية للجمهور، وخصص جوائز قيمة للفائزين. وطلب من بعض ممن يرافقه وضع أسئلة إضافية وتخصيص جوائز ومنهم الدكتور مانع سعيد العتيبة، كما كرم رحمه الله كادر العمل.

ويشير علي عبيد إلى أن الحظ لم يحالفه في مقابلة الشيخ زايد طيب الله ثراه في زيارته. ولكن بعد مضي أسبوعين فاجأهم زايد رحمه الله عند الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل بزيارة أخرى لموقع الحدث، لافتاً إلى أن الشيخ زايد رحمه الله طالبهم بأن لا يبخلوا على البرنامج وعلى الجمهور بشيء، وأن يستمروا في تصوير البرنامج حتى بعد انتهاء شهر رمضان، وفعلاً استمر البرنامج عامين حتى توفي مذيع البرنامج.

 

سد الشويب

 

قضى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان، خمسة عشر يوماً يتابع فيها بعض عمليات إنشاء سد الشويب، حيث كان رحمه الله يذهب إلى المكان مع شروق الشمس ويستمر يتابع العمل حتى غروبها، وهو يجلس فوق العراقيب من دون مظلة أو خيمة، يعطي توجيهاته ويتابع بنفسه كل صغيرة وكبيرة، حباً في العمل، وتقديراً لقيمة المطر، وحرصاً على ألا تكرر الأمطار فعلتها وتؤذي البشر.

 

 

من باكستان

 

في عام 1988م سقطت أمطار غزيرة على الإمارات، وكان المغفور له الشيخ زايد يسأل عن تفاصيلها من باكستان، وحدث أن انهمرت السيول وأغرقت العديد من القرى ودمرت بعض الطرق، فتابع بنفسه عملية صيانة ما خربته الأمطار، وقد خصص مجموعة من آليات البلدية والقوات المسلحة وطائرتين مروحيتين لإنقاذ من علقوا بسبب السيول، ويومها أُنقذ عدد كبير من الناس، وكان يحرص على سلامة الناس وتوفير ما يطلبونه وتعويضهم عما خسروه.

 

رحلة العلاج

 

يقول الشاعر حمد بن سوقات: من المواقف التي تعكس كرم المغفور له الشيخ زايد أثناء رحلته للعلاج في الولايات المتحدة، والتي استغرقت ما يقارب سبعة شهور، أنه علم بأن مجموعة من العرب والمسلمين يزورون هذا المستشفى الذي يتعالج فيه، ويترددون على ذويهم ومعارفهم من المرضى، ويقطن بعضهم في الفنادق المجاورة للمستشفى، فأصدر أوامره بأن يفتح المطعم أبوابه لمرتاديه على نفقته الخاصة ليلاً ونهاراً، ولم يقتصر الطعام على العرب فقط، بل شمل الزوار على اختلاف دياناتهم وجنسياتهم.

 

 

نظام

حادث سير

 

في عام 1982م، حيث كانت أولوية المرور في بعض الدوارات المغلقة في أبوظبي للقادم من اليمين على عكس باقي الدوارات، وكان الشيخ زايد ـ رحمه الله ـ يومها يقود سيارته بنفسه ويتجول في شوارع أبوظبي، ويتفقد أعمال الإنشاءات وأحوال المواطنين، ولم تكن السيارة عليها العلم كما هو معتاد من قبل رؤساء الدول، ولم تكن أمام سيارته ولا خلفها أرتال سيارات الحراسة، بل كان ـ رحمه الله ـ يتوقف عند إشارات المرور كما يقتضي النظام المروري. وكثيراً ما كان سائقو السيارات يفاجؤون بأن من يتوقف في الإشارة على يمينهم أو يسارهم هو رئيس الدولة، وصل بسيارته إلى أحد تلك الدورات المغلقة، ليفاجأ بسيارة تاكسي يقودها سائق آسيوي تصطدم بسيارته بقوة، حتى إنه رحمه الله أصيب في كتفه وسافر للعلاج في الخارج، وبعد أن أدرك المغفور له أن أولوية المرور في ذلك الدوار كانت لسائق التاكسي، عفا عنه، وأرضاه.

 

موقف

التعاطف مع الجميع

في كثير من الجولات التي كان يقوم بها ـ رحمه الله ـ كان يتوقف فجأة أمام رجل يبدو من ملامحه أنه غير مواطن، وغير عربي، وأنه عامل بناء بسيط أو مزارع في مزرعة، يناديه ويسأله عن اسمه وأسرته ومعيشته، وهل هو مرتاح في عمله أم لا؟، وإذا كانت له مشكلة أمر بحلها، ثم يعطيه مبلغاً من المال ويمضي مواصلاً جولته، هذا الموقف النبيل تكرر مئات المرات سواء في المدن أو القرى وحتى في الوديان والصحراء.

Email