أحلام صغيرة

منال.. أمنيات طفلة معلّقة في بتلات الزهور

ت + ت - الحجم الطبيعي

هي طفلة على عتبة ربيعها الثامن.. لم يُقيّض لها يوماً أن تعرف شيئاً عن أسباب «غربتها» هنا، حيث المخيّم أرض منفى، ولم تشغل بالها بالحرب الممتدّة منذ ما قبل أن تبصر عيناها النور في بلدها هناك، وما أنتجته من صور الموت والمعاناة، إذْ جلّ ما يعنيها هو مغادرة حياة «البرّاكيّات.. قصدي الخيمات»، وفق تعبيرها، وهي التي أثقلت ذاكرتها الطريّة بهموم العواصف وتداعياتها، لتخلص إلى توجيه ما يشبه الصرخة المكتومة في وجه كلّ من يعنيهم الأمر، بقولها لـ«البيان»: «إحْنا هنا منّاش مرتاحين».

«بدّي فلّ من هالبرّاكيّات، وإرجع ع بلدي».. هذا هو باختصار حلم الطفلة السوريّة منال العبّود، النازحة مع عائلتها من إحدى بلدات مدينة الرقّة السوريّة، وهي لم تبلغ من العمر ما يكفي كي تفهم ما تعنيه عبارتها، التي تردّدها بسرعة سردها للحروف الأبجديّة، في حسابات الكبار.. وبذكائها الطفوليّ الذي يشعّ من عينيها الواسعتين، تكتفي برفْع يديْها الصغيرتيْن نحو السماء، وهي تحاول في الوقت عينه إخفاء أسنانها المتساقطة بفعْل سنين عمرها والتنقّل بنظرها في أرجاء الخيمة، راجيةً ربّ العالمين أن يحقّق أمنيتها في هذا الشهر الفضيل، وتكمل حديثها كمن يشرح همّه للقادر وحده على «تسيير الأمور»، بعبارة واحدة: «بالصيف ما في شي. بالشتا تجي العاصفات وتخرب البرّاكيّات». ومن بوّابة وجع النزوح، لا تفسير للشكوى في قاموسها الصغير سوى طريق «العودة للديار»، والذي لا يلبث أن تختفي معالمه مع أوّل شعاع للشمس.

وفي ما يشبه رسْم الحدّ الفاصل ما بين واقع حياتها هنا في «مخيّم مشاريع القاع» للنازحين السوريّين هنا، وتحديداً على مقربة من الحدود اللبنانيّة- السوريّة في البقاع الشمالي، وبين تطلّعها إلى أن تصبح مدرّسة أطفال في مدينة الرقّة السوريّة هناك، اعتادت صغيرة العائلة التجوال، في حركة لا تهدأ، في محيط الخيمة، حيث تتداخل الحياة اليوميّة لأفراد عائلتها المكوّنة من 10 أشخاص، تركوا ديارهم مرغمين وهي تضجّ بغبار الحرب الممتدّة منذ نحو 10 سنوات. تارةً تكنس الأرض، وتارةً أخرى تسقي «الزرّيعة» (الزرع)، أو تقصد محيط خيمة «شاويش المخيّم» لتلهو مع أترابها الصغار.

أقحوانة.. وأمل

ومن بين اهتماماتها المتعدّدة، التي لا صلة لها بالدراسة «المعطّلة» حالياً، حتى افتراضياً، لا تغفل منال المثابرة يوميّاً على قطْف زهرة من زهور الأقحوان المزروعة في محيط الخيمة. وفي اختيار هذه الزهرة دلالة على ولادة الحياة الجديدة. تنتزع أوراق الزهرة الواحدة تلو الأخرى، وتردّد بهمسٍ: «بتخلص الحرب.. ما بتخلص الحرب». ودون مللٍ، تترقّب ما سيكون عليه الاحتمال المرتبط بانتزاع الورقة الأخيرة: تبتسم إنْ كان لصالح نهاية الحرب، وتحزن إنْ كان معاكساً لذلك.

وبإدراكها الطفوليّ، تعلم جيّداً أنّ «الحياة بالخيمة مشْ حلوة»، وأنّ العودة إلى الديار «صعبة كتير» حالياً، فيما يبقى رهانها على ربّ العالمين، القادر على «تسيير الأمور»، مع ما يعنيه في حساباتها من مغادرة حياة «البرّاكيّة» وهموم العواصف التي تشغل بالها، والتطلّع إلى المستقبل بعيون «آنسة» (مدرّسة) الغد الأجمل، فـ«لمّا صير آنسة، رح علّم الولاد الصغار كيف لازم يحبّوا بعضن وما يتخانقوا، وعلّمن إنّو مشْ لازم يفلّوا من بلدهم». عبارة تقولها بحزنٍ عميق وخجلٍ طفوليّ في آن. وفي الواقع، هي ما زالت تجهل تماماً صورة غدها، بتفاصيله كلّها. أمّا تفاصيل يومها، فتبدأ وتنتهي في إطار محدّد بالأمتار، لا يزال جاثماً على أكوام من ضيق الحال والأحلام المؤجّلة.

Email