عباس بن فرناس .. «حكيم الأندلس» والطيار الأول

عباس بن فرناس

ت + ت - الحجم الطبيعي

يحفل تاريخنا العريق بأعلام بارزين أسهموا في بناء صرح الحضارة الإسلامية، وكانوا وما زالوا نجوماً مشرقة في سماء العلم، نذروا أنفسهم لخدمة البشرية كافة، وقدَّموا جهوداً مشرِّفة في مجالات شتى، منها الطب والرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك، وغيرها من العلوم الإنسانية، وأثَّرت جهودهم في النهضة الأوروبية تأثيراً اعترف به الأوروبيون أنفسهم.

وخلال شهر رمضان المبارك، تحيي «البيان» ذكرى هؤلاء العلماء، وترحل مع القارئ في عوالمهم الفسيحة، كاشفةً اللثام عن إنجازاتهم التي شكَّلت حلقة في مسيرة التطور، والتي قد اعترى بعضَها النسيان والظلم التاريخي أحياناً.

يخطئ من يتصوَّر أن مسيرة العلم كانت سلسلة متعاقبة من النجاحات، بل تخلَّلتها محاولات لم يُكتب لها التوفيق، لكنها أسهمت في دفع عجلة التطور، وكشفت عن أسباب الإخفاق، التي سعى الباحثون على امتداد تاريخ البشرية إلى تجنُّب تكرارها،.

وتطلعوا إلى رؤى جديدة، ليصنعوا من أحلامهم العلمية المحلِّقة واقعاً حقيقياً، فكم من تجربة علمية مخفقة كانت بوابة منفتحة على آفاق النجاح.

لقد كانت حدثاً تاريخياً بحق، تلك اللحظةُ الفارقة التي صعد فيها العالم الأندلسي عباس بن فرناس بن ورداس التاكرني، الملقب بـ«حكيم الأندلس»، تلةً في منطقة الرصافة في قرطبة، متخذاً قراره الجريء بمحاولة الطيران، بمرأى ومسمع من الجماهير الغفيرة التي وقفت تراقب بدهشة تجربته المذهلة، ليُسلِم جناحيه المصنوعين للريح.

وينجح في التحليق مسافةً بعيدة، ثم يسقط أرضاً بصورة عمودية، متأذياً في ظهره بإصابات بليغة أودت بحياته سنة 274هـ.

لم تكن تجربة عباس ضرباً من العبث والجنون، وإنما جاءت بعد مرحلة طويلة من البحث والتفكير، درس فيها بإمعان حركة أجنحة الطيور عند طيرانها وثقل الأجسام ومقاومة الهواء لها، مستخدماً مهاراته الحسابية في معرفة تناسب السرعة والرياح، ومستعيناً بعلوم الطبيعة التي تبحَّر فيها لدراسة خواص الأجسام، ثم صنع جناحين من الحرير يحملانه ليطير في الجو.

لكن فاته أن يصنع ذَنَباً، فأدرك بعد تنفيذ محاولته الأولى في التاريخ وظيفة الذيل عند هبوط الطيور، لتصبح هذه التجربة مصدر إلهام لمن جاء بعده من المخترعين، ابتداءً بروغر بيكون الذي نجح بعد وفاة ابن فرناس بنحو 400 سنة في صناعة آلة تطير، ومروراً بالأخوين رايت اللذين نفَّذا أول محاولة للطيران بآلة ذاتية الدفع، وانتهاءً بالثورة العلمية التي أحدثتها صناعة الطائرات.

اهتمامات متنوعة

كانت بداية نشأة عباس بن فرناس في قرطبة، حيث تعلَّم القرآن الكريم ومبادئ الشرع الحنيف، ثم اتجه إلى تعاطي اللغة والبلاغة والأدب والشعر، وفي الوقت ذاته اعتنى بدراسة الرياضيات والكيمياء والفلك.

ولئن كانت تجربة الطيران هي أشهر إنجازاته العلمية التي خلَّدها المؤرخون في كتبهم والشعراء في قصائدهم، فإن سجلَّ عباس بن فرناس حافل بالمزيد من الإسهامات المفيدة للإنسانية التي لا تقل أهمية، ومنها أنه اخترع ساعة مائية عُرفت بـ«الميقاتة» لمعرفة أوقات الصلاة وأوقات الشروق والغروب، وصنع عدسات تصحيح البصر.

واستنبط صناعة الزجاج الشفاف من الحجارة والرمل، وكان أول من ابتكر قلم حبر من أسطوانة متصلة بحاوية صغيرة، يتدفق عبرها الحبر إلى نهاية الأسطوانة المتصلة بحافة مدببة للكتابة.

طبيب وصيدلاني

كذلك اهتم عباس بدراسة الطب والصيدلة، حتى اتخذه أمراء بني أمية في الأندلس طبيباً خاصاً في قصورهم، فقرأ خصائص الأمراض وأعراضها وتشخيصها، مركِّزاً على طرائق الوقاية من المرض، ومتوصِّلاً إلى الخواص العلاجية للأحجار والأعشاب والنباتات.

لقد عرف العالَم قيمة ذلك العبقري المسلم الذي سبق الكثيرين باختراعاته وتجاربه المدهشة، واختزل بعضهم دوره العلمي في تجربة الطيران التي نظروا إليها جهلاً بأنها أسطورة فكاهية، بينما رأى المنصفون المتتبِّعون لتاريخ العلم أن تقصيره فيها عن الشأو البعيد لا ينتقص من قيمتها، فذلك شأن كل مشروع في بدايته.

 

Email