العفو قيمة عظيمة

ت + ت - الحجم الطبيعي

حفلت حياة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بالكثير من المواقف الإنسانية داخل الدولة وخارجها، وبقيت أثراً يتوارده الأجيال، ويحكيه الكبير للصغير، مواقف تجلّى فيها زايد القدوة والإنسان. وروى بعضاً من هذه المواقف مرافق المغفور له بإذن الله الشيخ زايد، سعيد بن دري الفلاحي خلال لقاء تلفزيوني سابق.

فيقول في عام 1982، كان الشيخ زايد، رحمه الله، يقود سيارته بنفسه ويتجول في شوارع أبوظبي، ويتفقد أعمال الإنشاءات وأحوال المواطنين، ولم تكن السيارة عليها العَلم، كما هو معتاد من قبل رؤساء الدول، وليس أمامها أو خلفها سيارات الحراسة، بل كان رحمه الله يتوقف عند إشارات المرور، كما يقتضي النظام المروري، وكثيراً ما كان سائقو السيارات يفاجأون بأن من يتوقف عند الإشارة على يمينهم أو يسارهم هو رئيس الدولة.

في هذا اليوم، وصل بسيارته إلى أحد الدوارات المغلقة، التي كانت أولوية المرور فيها للقادم من اليمين على عكس بقية الدوارات، ليفاجأ بسيارة تاكسي يقودها سائق (من جنسية دولة آسيوية) تصطدم بسيارته بقوة، حتى إنه رحمه الله أصيب في كتفه وسافر للعلاج في الخارج، وبعد أن أدرك أن أولوية المرور في ذلك الدوار كانت لسائق التاكسي عفا عنه وأرضاه.

العفو والصفح ومقابلة الإساءة بالإحسان صفة لا يتمتع بها إلا من قارب الكمال في الأخلاق، وكان الشيخ زايد رحمه الله قدوة لأبنائه وشعبه في هذا الجانب، والعفْوُ من صفات العزة في الدنيا والآخره؛ لأن العفوَ هو أن تترُكَ معاقبةَ كلِّ من يستحق العقوبة وأنت قادر على عقوبته، فعن عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ - والذي نفسي بيدِه - إن كنتُ لَحالفًا عليهِن: لا يَنقُصُ مالٌ من صدقةٍ؛ فتصدَّقوا، ولا يَعفو عبدٌ عن مَظلمةٍ إلا زادَه اللهُ بِها عزّاً يومَ القيامةِ، ولا يفتَحُ عبدٌ بابَ مسألةٍ إلا فتحَ اللهُ عليهِ بابَ فقرٍ».

ومن هنا ندرك أهميةَ العَفْوِ، وعِظمَ مكانة من يَتَّصفُ به.

والسؤالُ الذي يطرح نفسَه: هل العفْوُ دائماً محمودٌ حتى إذا استَمرَّ شخصٌ في الإساءةِ إليك، وتمادى في إساءتِه؟

والجوابُ: لا.

فالهدفُ من العفوِ هو الإصلاح، فإن لم يتحقَّقِ الإصلاحُ مع تَكْرارِ العفوِ وتمادى المُسيءُ في إساءتِه إلى درجةٍ تتسبَّبُ في الأذَى البالغِ للمُساء إليه فهنا وجبَ الأخذُ بالحقِّ والمطالبة بعقوبة المسيء.

وقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغِي للمؤمنِ أن يُذلَّ نفسَه»، قالوا: وكيف يُذلُّ نفسَه؟ قال: «يتعرَّضُ من البلاءِ لمَا لا يطيقُ».

أَيْ أن الإنسانَ لا ينبغي له أن يترُكَ نفسَه تتعرضُ للإساءة والإهانة باستمرار، مُتَّسماً بالعفو في موضعٍ لا يؤدِّي العفوُ لإصلاح، زاعماً أن الشرعَ حثَّ على العفْوِ، بل ينبغي أن يكون المسلمُ عزيزاً بدينِه وتسامحِه، وإذا تحوَّلتِ العزةُ بالعفوِ إلى ذِلَّةٍ وإهانةٍ، فهنا وجَبَ عليه أن يقف وقفةً حازمة، فالله - عز وجل - عادلٌ لا يقبل الإهانةَ والذلَّ، وكما حث سبحانه على العفو فقد حث أيضاً على القِصاص والأخذِ حينما يَستدْعي الأمر ذلك.

وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يؤذون المسلمين قائلاً: «يا معشرَ مَن أسلمَ بلسانِه ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبِه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم، ولا تتَّبعوا عَوراتِهم؛ فإنه مَن تتبَّع عورةَ أخيهِ المسلم، تتبَّع الله عورتَه، ومَن تتبَّع اللهُ عورتَه يفضَحه ولو في جَوفِ رَحْلِه».

ولما سُئلَ صلى الله عليه وسلم عن امرأةٍ تصوم النهار، وتقوم الليل، وتؤذي جيرانَها؟ قال: «هي في النار»، قالوا: يا رسول الله، فلانة تصلي المكتوباتِ، وتَتصدقُ بالأثوارِ من الأقِطِ، ولا تؤذي جيرانَها؟ قال: «هي في الجنةِ».

وهنا وجَبَ التوضيحُ أن الأخذَ بالقانون والردع به لا يعني عدمَ المسامحةِ في القلب، بل تتم المسامحة في القلب مع الأخذِ بالقانون؛ ردعاً وزجراً للمسيء؛ ليتوقفَ عن إساءتِه، وليس انتقاماً منه.

 

واعظ ديني في وزارة الداخلية

Email