قيام السلف لرمضان

ت + ت - الحجم الطبيعي

قيام شهر رمضان هو شعار هذا الشهر الكريم الذي يتنافس فيه المتنافسون في محاريب الهداية بين يدي رب العالمين الذي خاطبهم بقوله سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فيتنعمون بمناجاته بإياك نعبد وإياك نستعين، قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويدعونه تضرعاً وخفية، فيكون ذلك قرة أعينهم وراحة بالهم وسلوة نفوسهم، وهم يناجونه كفاحاً من غير حجاب ولا بواب، وقد سئل رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أيّ الصلاة أفضل؟ قال: «طول القنوت»، كما حث على ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوله: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفر للسيئات، ومنهاة عن الإثم».

هكذا يبيّن صلى الله عليه وآله وسلم فوائد قيام الليل حتى يحبوه ويقبلوا عليه رغباً، وذلك من رحمته بهم ودلالته لهم إلى الخير الذي لم يبق منه شيء إلا دلّ عليه، ولا شر إلا حذّر منه، كما قال عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه لما فتر عن وظيفته من الليل الذي كان قد داوم عليه: «يا عبدَ الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل، فترك قيام الليل»، وهو خطاب لجميع أمته ليكون لهم حظ من الليل يتبتلون فيه لربهم فيدعونه خوفاً وطمعاً، ويستغفرون بالأسحار، كما روى عبدالله بن سلام، رضي الله عنه، قال: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جفل الناس إليه، أي أسرعوا، وقيل: قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنتُ وجهَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء تكلم به أن قال: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلِوا الأرحام، وصَلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».

فإذا كان هذا في سائر العام، فإنه في شهر رمضان وشهر تنزل القرآن آكد طلباً وأعظم أجراً، ولذلك شرع النبي، عليه الصلاة والسلام، قيامه فصلّى بنفسه، كما روت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خرج ذات ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهد، ثم قال: «أما بعد، فإنه لم يخفَ عليّ مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها».

هكذا حرص الصحابة الكرام، رضي الله عنهم، على التأسي برسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبادروا إلى الصلاة معه، وتسامعوا فكثر الجمع حتى غُص المسجد بأهله، والزمان زمان تشريع، والنبي، صلى الله عليه وسلم، رحمة مهداة للمؤمنين، يكره أن يشق عليهم إن فرض، فتأخر عن الخروج إلى المسجد ليصلي قيامه في بيته فلا يسع الناس أن يدخلوا، ليبقى القيام نافلة مرغوبة بحسب الوسع والطاقة، كما قال عليه الصلاة والسلام: «شهر كتب الله عليكم صيامه، وسننتُ لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه». ولما استقر التشريع وكمُل الدين وانتقل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الرفيق الأعلى جمعهم أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين سيدنا عمر، رضي الله عنه، على إمام واحد، لما رآهم مواظبين على سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالقيام فكانوا يصلون أوزاعاً متفرقين، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر، رضي لله عنه: والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، «فجمعهم على أُبيّ بن كعب، رضي الله عنه، ثم خرج ليلة أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر:«نعمت البدعة هذه، والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون »، يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله.

فكانوا يقومون قياماً طويلاً، فيصلون عشرين ركعة، ولما جاء عن عليّ، رضي الله عنه، «أنه أمر رجلاً يصلي بهم في رمضان عشرين ركعة»، وزاد مالك ستاً وثلاثين ركعة تبعاً لعمل أهل المدينة لما روى داوود بن قيس، رحمه الله، قال: «أدركت الناس بالمدينة في زمن عمر بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان يصلون ستاً وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث».

 كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدبي

Email